حكايات مصابي كورونا بين جنة الدعم وجحيم التنمر
الأحد 7 يونيو، وقفت “أنعام” أحد المشتبه في إصابتهم بكورونا، داخل مستشفى عزل ههيا، تطالب الدكتور “محمد. د” بإصدار تقرير يفيد بأنها غير مصابة بالفيروس، وسط تأكيد من الأطباء على أن نتائج الفحوصات سلبية، إلا أنها ظلت تبكي وتطالب بتقرير كتابي غير مفصحة عن سبب طلبها الغريب، حتى اقتربت من الدكتور قائلةً: “محتاجة أي ورقة واضحة إني معنديش كورونا، عشان أرفعها على النت، لأن العمدة بيرفع صورنا ويقول أننا عندنا كورونا، والناس مش سايبنا في حالنا وبيعايرونا”.
الوصمة مقدمة على المرض
عرفت السيدة الأربعينية من طبيب القرية أنها تعاني من أعراض فيروس كورونا، نهاية مايو الماضي، فأجرت الفحوصات المطلوبة وقامت بعزل نفسها، لحين ظهور النتيحة، والتي أشارت إلى أن السيدة سلمت من المرض اللعين، إلا أنها لم تسلم من التنمر عليها وعلى أسرتها، قائلةً: “فوجئت بالعمدة منزل صورتي وبيحذر مني الناس”.
محاولات عدة قامت بها “أنعام”، لإثبات أنه كان مجرد اشتباه وأن نتيجة التحاليل ظهرت سلبية، إلا أن جميعها باءت بالفشل بعد منشور “عمدة البلد”، ولم يتوقف التنمر عليها فقط، بل طالع كل أفراد أسرتها الأمر الذي تسبب لها في أذى نفسي.. “بيعايروا ولادي في الشارع وكأنهم ولاد تاجرة مخدارت”، مستنكرة ما يتعرض لها أبنائها وأسرتها.
بعد 5 أيام من ظهور النتيجة، ووسط زيادة نبرة التنمر ضد الأسرة، ذهبت السيدة إلى المستشفى بحجة المتابعة للاطمئنان على صحتها، وبالفعل أجرت الفحصوات اللازمة ليخبرها الأطباء أنها بخير، إلا أنها لم تكن تعاني من أي أعراض سوى التنمر والمعايرة من أهالي القرية، لذا وقفت باكيةً حالها للطبيب تطلب تقرير مكتوب لأهالي القرية والعمدة لوقف الأذى النفسي الذي يتعرضون له.
كدَّهُنَّ عظيم.. أجنحة تاء التأنيث تحاوط مصابي فيروس كورونا بمصر
الهروب إلى الخطر
لم يختلف حال “فهيمة” عن “أنغام”، حيث مرت على السيدة صاحبة الـ45 عامًا، أياما وهي تحارب الفيروس متكتمة خوفًا من الوصمة، حيث ظلت تعاني من أزمة في التنفس فضلًا عن ارتفاع في درجة حرارتها، كل هذا وشكوى السيدة لا تتخطى حاجز منزلها، يكاد أن يقتلها القلق ليس من “كورونا”، بقدر خوفها من الوصمة المجتمعية التي قد تلاحقها أو أن يجلب مرضها “المعايرة” لأسرتها بسبب إصابتها.
لأيام والسيدة الأربعينية تحاول إخفاء ما بها، إلا أن الفيروس كان أقوى منها، حيث اشتد عليها المرض، لتقرر الذهاب إلى المستشفى سيرًا على الأقدام مخفية ملامح المرض، رفقة ابنها الأكبر في تكتم شديد، وسط انزعاجها أن يتفشى الأمر في البلد وتتسبب لهم في “العار أو المعايرة”، وبالفعل سارت الأمور كما خططت لها، وتعافت من الفيروس بعد رحلة علاج استمرت نحو 12 يومًا، حيث عللت أسرتها اختفائها بأنها في زيارة لابنتها المتزوجة في بلدة مجاورة لهم.
لا مفر من الأذى النفسي
لم يشفع للدكتور محمد رياض، أحد أطباء مستشفيات العزل، ما قام به في معركة محاصر الوباء العالمي، لدى جيرانه، الذين وقفوا لمنعه من الدخول لمنزله، فلم يخطر بباله أن يقف بوالده المريض والعائد من الرعاية المركزة أمام منزله، غير قادر على الصعود به ليستريح، ولم يستوعب الطبيب ما ردده الجيران: “روح شوفله مكان اعزله فيه بعيد عن هنا”.
بعد استقرار حالة والد الطبيب، وبعد مطالب والده والذي بدت نفسيته سيئة بسبب ما يدور حوله من أحداث ورائحة الموت تنبعث في العناية، كلما دخل عليه أحد خرج محمولًا على الأكتاف، قررا أن يذهبا به للمنزل واستكمال رحلته العلاجية في المنزل، حيث الراحة النفسية على أن يعتني به أبنائه ويقوم باستكمال فترة العزل المنزلي لحين شفائه.
“الجيران المحترمين قافلين باب العمارة ومش عاوزين يدخلوا بابا.. أنا ما مبقولش نكتة”، هكذا قال الطبيب الثلاثيني، مستنكرًا ما يحدث معه ومع والده المريض الذي هرب من الضغط النفسي في مستشفيات العزل ليصطدم بضغط الجيران عليه لطرده من منزله، وهو الذي زاد من تعبه “خاصةً إننا بنتعامل كلنا كإننا أهالي ومكناش مستوعبين اللي بيحصل”.
للحظة ارتبك الطبيب: “كنت واقف مش عارف الحق أبويا بإسطوانة الغاز حتى عشان يرتاح”، وبعدها كتب بأيادي مرتعشة ما يتعرض له هو ووالده على “فيس بوك”، لينتشر بشكل واسع خاصة أن الطبيب له متابعين كُثر، مما ساعد على وصول الأمر لمباحث الزقازيق والذي حركت بدورها مباحث كفر صقر لموقع الحادث، ليتدخلوا بدورهم وينهوا الأمر، “مفيش حد هيحس بالقهر والأذى النفسي اللي أبويا اتعرضله امبارح.. رغم إنه سامح وإحنا سامحنا خلاص.. بس الأثر النفسي مستمر”.
جنة الدعم
حالات فردية، من بين مئات القصص الملهة خرجت وسط المحنة التي تمر بها البلاد، حيث ضرب المصريين أروع الأمثلة في تحويل المحنة لمنحة، وظهرت العديد من المواقف الداعمة لمصابي كورونا وأسرهم، من بين تقديم الوجبات السريعة لأسرهم، وتوفير خدمات لإنهاء حوائجهم، وتطوع البعض لتكفين الموتى، وتقديم الخدمات للمصابين، وإدخال السرور على قلوبهم ودعمهم في محاربتهم للخبيث.
الصداقة تُحارب كورونا
من بين تلك القصص، قصة “وسام” وصديقتها “نور”، والتي هزت منصات التواصل الاجتماعي، فعبر شرفة منزلها الكائن في ميدان المسلة بمحافظة الفيوم، وقفت “وسام” صاحبة الـ29 عامًا والتي تحارب فيروس كورونا بالعزل المنزلي، مكتوفة الأيدي لا حول لها ولا قوة، تنظر إلى صديقتها “نورهان”، والتي قطعت آلاف الأمتار قادمةً من القاهرة لدعمها في حربها على الفيروس اللعين، تنظر لها وتبكي تتمنى أن لو تضمها بين ذراعيها للتعبير عن حبها، ويتبادلا الكلمات في لقاء دام لقرابة ساعتين، وسام من شرفتها ونورهان من الشارع، حتى أنهما تمنيا لو أن كورونا “شخص” حتى يقتلاه.
عامين فقط كانت مدة الصداقة التي جمعت، “نور وويسو” (كما يحلو لهم مناداتهما بهذه الأسماء)، حيث تقابلا في محراب العلم بجامعة الفيوم، إلا أنهما يعتبران أن العامين بمثابة عمر في حياة كلاهما، “مش صحبة الأيام والعمر الطويل، الصحاب مواقف، وعشرة مصايب، وإخوات وقت الشدة، وسند وقت الضيق”، رغم اختلافهما عن بعض في كل شيء، إلا أن الحب وطيب القلب يجمعهما.
من بين زميلاتها الكُثر، لم تجد “وسام” سوى “نور” لتحكي لها عن ما تشعر به من آلم تشبه ما يرددون أنه أعراض كورونا، ليتكتما على الأمر، وتتابعها الفحوصات الطبية “عازلة نفسها”، حتى ثبت أنها مصابة بالفيروس، وبدأت رحلتها مع العزل المنزلي، وفي محاولات لخروج “وسام” من الحالة الصحية، كانت “نور” تراسلها على مدار اليوم، يتبادلا أطراف الحديث، تحاول أن تقتلع صديقتها من أجواء المرض والمعاناة، تقص عليها الذكريات، “المسلية منها فقط”، وعرضت عليها أن تخبر باقي “الشلة” حتى يدعموها في فترة علاجها ويخرجوها من الأجواء التي رافقتها في بداية معرفتها.
تشير “نور”، إلا أنها ما كانت تتخيل للحظة أن تنتشر الصور بذلك الشكل، حيث أن أصدقائها ومقربين لها شكروها على ما فعلت بعد مشاهدة الصور، غير أن المهشد لم يسلم من العديد من التعليقات التي أذت وسام قبل نور، مثل الذين قالوا أنها لا تفعل ذلك من أجل الدعم، مشيرين إلى وجود مصلحة أو جمعية بينهما أو غيره، حيث تقول: “عمري ما كنت أتخيل إن فيه ناس كده، وبوظت نفسية وسام بعد ما كانت كويسة بكلامهم السخيف، رغم إني عمري ما بعمل لشو ودي طبيعتي، وأي حد من صحابي لا قدر الله لما يكون عنده حاجة بكون وهكون جنبه”.
التنمر محرم شرعًا.. والدعم واجب
“لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك”، بتلك المقولة بدأ الداعية الإسلامي، يسري عزام، أحد خطباء وزارة الأوقاف اللامعين، تعليقه على تلك المشاهد بين جنة الدعم وجحيم التنمر، كاشفًا الحكم الشرعي لهذه المواقف، حيث أكد أن التنمر مرفوض عرفًا ومحرم شرعًا قولًا واحدًا، فلا يسخر قوم من قوم.
فيما أمر الإسلام بتقديم الدعم، وفي هذه الحالات يكون واجبًا، كما يؤكد “عزام” لـ”القاهرة 24″، إعمالًا لقول الله: “وتعاونوا على البر والتقوى”، وقول الرسول: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، مشددًا على أهمية التكافل والتكامل بين المصريين فيما بينهم في ظل تلك الجائحة.
ثقافات.. التحليل النفسي لتحول كورونا إلى وصمة
الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أرجع تعامل المصريين مع مصابي كورونا بين الدعم والتنمر، إلى الثقافات التي تكونت لدى كل فرد، بحيث لا يوجد لدى البعض ثقافة أن المريض يحتاج إلى الدعم والمساندة للخروج من أزمته، وهو ما قد يدفع البعض للتنمر على المريض في ظل خوفه من انتقال المرض إليه.
ويرى “فرويز”، أن الثقافتين ما بين الدعم والتعامل على أن المرض وصمة، صحيحة من وجهة نظر الشخص الذي يتعامل مع المريض، فمن يتعامل على أنه وصمة يريد أن يؤمن على نفسه بغض النظر عن الأذى النفسي الذي قد يلحقه بالمريض أو أسرته دون أن يشعر، ومن يقدم الدعم يرى أنه لا بد من مساندة المرضى للخروج من أزمتهم.
“المرضى أنفسهم ساعدوا على تحويل كورونا إلى وصمة”، حيث يؤكد استشاري الطب النفسي، أن هناك البعض أصبح يخفي إصابته بالمرض، لأنه وجد أن من يصاب بالمرض يتم وضع “علامة” على بيته ويتجنبه الجميع، وبتلك الطريقة تحول الموضوع إلى وصمة، وهو ما يؤثر على تأخر علاج المريض.
“فوبيا” أكثر من كونها وصمة أو تنمر
الموضوع ليس وصمة أو تنمر بقدر ما هو فوبيا، كما تشير الدكتورة هاله منصور، أستاذ علم الاجتماع، مؤكدةً على أن “كورونا” ليس له علاقة بالتنمر، مقارنة بالإيدز، والذي كان يتم التنمر من المصاب به، لأنه ناتج عن فعل خاطئ ارتكبه من يصاب بالمرض، ويرفضه المجتمع لذا يتم التنمر ممن يصاب به.
ففي ظل نقص المعلومات الطبية عن الفيروس، وطرق انتشاره، ما بين تصريحات نقله عن طريق الأسطح أو الرذاذ، أوغيرها من التصريحات، جعل هناك علامات استفهام حول الفيروس مصطحبة بـ”خوف وفوبيا”، من المريض، كما توضح أستاذ علم الاجتماع، لذا يبتعدون عنه تجنبًا لنقل العدوى، دون الالتفات لازداء مجتمعي أو تنمر، وإن كانت حالات الدعم مهمة لمساندة المريض وتقوية مناعته، (حسبما أشار أطباء المناعة).