في سن الثلاثين.. هنا وصلنا خط الوسط
الثلاثين.. للرقم رهبته، وللحياة تفاصيلها الكثيرة التي لا تُروى.. الآن أنا في الثلاثين، أو خط الوسط، كما أحب أن أصفه، نعم هو ذلك الخط الفارق بين مرحلتين، فلا يمكن الوصول إليه إلا بعد اجتياز الجزء الخاص بك من الملعب، ولا يمكنك التوقف قبله، طالما أن هناك مباراة وجمهور وحكم قد لا يمنحك أي وقت إضافي.
أنظر ورائي، إلى حارس المرمى الذي هو في الأصل انعكاس لحياتي كطفلة، لا أذهب لأحد فهم الذين يجيئون إليّ، حتى حين تعلمت الحركة لم يكن المطلوب مني سوى التحرك في مساحة محدودة كالسويس، مدينتي الهادئة التي بدأت فيها الحبو والحركة بدون أي مطالبات بالإسراع، وتيرة الحياة المُريحة لا تتطلب أي عجلة.
أبتسم وأتذكر حين خرجت من حراسة المرمى إلى خط الدفاع، يمكن تحديد التاريخ حين جئت إلى القاهرة طالبة جامعية ثم زوجة لم تبلغ العشرين بعد، العاصمة بسرعتها القادرة على “فرم” أي قادم غريب تتطلب أن يدافع المرء عن نفسه أولاً، أن يحمي حياته، ويجرب السير بحدود لا يتخطاها، حتى لا يتلقى هدفاً يزعزع حياته، ويقلبها رأساً على عقب، في ظل جهل بأي حياة مقبلة، وأي خصم أمامي، وأي خطط تلعب بي الحياة، لم يعد مطلوباً مني سوى التصدي قبل أن أخطو، وفهم ما يدور جيدًا في نصف ملعبي قبل التجرؤ على السير في ملعب آخر، وبدت المسافات شاسعة لتحقيق أي هدف.
لكن أي جديد يفقد رونقه دائما، اعتدت الدفاع وعرفت إمكانيات الخصم، ومن أين يريد أن يتسلل فأتاح لي حرية الحركة، في الزواج لم أعد الطفلة الصغيرة بل الأم المسؤولة عن ولد أدعوا الله كل يوم أن يكبر كي أرى أولاده، وبجواري زوج يتصدى معي لأي مفاجآت من الخصم، وفي العمل الصحفي سرت قليلًا، وكلما اكتسبت جزء حافظت عليه قدر المستطاع وكلما مر الوقت شعرت بشوقي للركض لا لشيء سوى للشعور بحرية الهواء الذي يداعب شعري.
لم أركض، غادرت الدفاع سريعا وانطلقت يمينا ويساراً لكن مع الالتزام بنصف الملعب، هكذا يمكن وصف مرحلة العشرينات، الوينج اليمين زوجي وعائلتي التي زادت فردًا بابنة، قاسمتني الحياة وتسريحة البيت وأدوات المكياج والحكايا الليلية، والوينج الشمال العمل بتقلباته وصفعاته ونجاحاته وبات ركضي عرضيًا لا يتوقف هنا وهناك، غير قابل للراحة، لكنه تدريب جيد على حفظ أرضية الملعب، وملاحقة الكرة في الهواء وتوقيفها في الوقت المناسب.
الآن أنا في المنتصف، شباكي نظيفة رغم وجود أكثر من كرة تصدى لها الحائط في عناية آلهية لا أستحقها، لكنه رحيم حفظنا جيدًا، وجعلني راضية عن مرور كل هذا الوقت الذي استطعت فيه تأمين ما يلزم، لكن الآن أنا لا أريد تسجيل الأهداف، بيني وبين شباك الحارس الآخر مسافة لا أريد الوصول إليها، إلا بعد عقد لو كان في العمر بقية.
لكن الآن أريد أن ألعب، لا يليق وصف أمرأة ثلاثينية إلا بلاعب الوسط، هو مثلها تمامًا، هي كاملة الأنوثة وهو كامل الموهبة، هي تعرف الدروب إلى هدفها وهو يُدرك جيدًا أي ركلة يمكن أن تمنحه الفوز، هي لا تهتز من أي أزمة ولا تخشى أي رجل، وهو على ثقة تماما أنه لن يهزم أمام أي مهاجم، ويستطيع الركض بطول الملعب، هي تضبط مشاعرها فتعرف الحد الفاصل بين أوقات الغضب وأوقات الغنج، وهو يدرك أي وقت يجب أن يُخرج الكرة من قدمه وأي توقيت يحتاج لمرور المباراة دون هزيمة.
المرأة الثلاثينية كلاعب خط الوسط، هي تريد أن ترقص وهو يعشق أن يجعل الملعب نوتة موسيقية يعزف فيها كيفما يشاء، هي لا تكترث للمقارنات، ما تلوكه الألسنة، وهو لا يكترث بصياح زميل يطمع في كرة تجعله هدافا، طالما أنه يستمتع بترقيص واحداً تلو الآخر، هي ترفض أن يتحكم فيها أحد وهو يرفض أن يملي أحد عليه شروط، لذلك فالمرأة الثلاثينية حرة تمامًا كلاعب خط الوسط، متمردة مثله، وضرورية وإلا اختل الإيقاع!
والآن لا يهمني حتى الوصول لمنطقة جزاء الخصم، ربما تأتي إصابة تربك كل ذلك، وربما يأتي هدف من كرة غير متوقعة تحسم النتيجة، لكن طالما أن هذا لم يحدث حتى الآن فعلى الأقل أريد الاستمتاع، الانطلاق، الحياة بعيدًا عن أي ثنائية وأي حديث وأي قيود، حتى الفوز لا أريده طالما هي مباراة واحدة لن يعقبها مباريات أخرى، وبالتالي لا تهمنى النتائج.
في الثلاثينات أريد الوصول إلى ما وصل إليه “دينلسون” البرازيلي، حين لم يفعل أي شيء في مباراة كأس عالم 2002 سوى الوقوف على خط التماس لترقيص لاعبي منتخب تركيا، واحدًا تلو الآخر تاركًا لأصدقائه مهمة تسجيل الأهداف طالما هو يحقق ما يريد حتى لو تسبب ذلك في إهانة الخصم.. فالمتبقي ليس لتحقيق الأمجاد، بل فرصة للفرحة والراحة والإسعاد