خاشقجي.. وورطة الإعلام
على خلفية عملية قتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول التركية مطلع الشهر الجاري، والدور الذي لعبه الإعلام الدولي لكشف ملابسات الحادث، لطم أهل الصحافة في مصر الخدود وشقوا الجيوب حسرة على ما وصل إليه إعلامنا من انهيار وتردي، فـ”الميديا الدولية” هي من تلاحق قتلة الصحفي المغدور، ولولاها لمات الرجل “فطيس” دون أن يسمع عنه أحد.
تعددت المقارنات والمقاربات بين ما قامت به “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” و”سي ان ان” وغيرها، وبين تفاعل منصاتنا الإعلامية مع هذا الحادث، أو حتى مع غيره من قضايا تمس المواطن المصري بشكل مباشر، ووصل البعض إلى نتيجة أن “صحفتنا ماتت ودفنت وأقيم لها سرادق العزاء“.
كتب البعض متسائلا في الأسبوع الأول من الحادث: “لماذا اختفى خاشقجي من صحفنا؟“، ثم تهكم بعضهم على من تمسك ودافع عن الرواية السعودية الأولى بأن الرجل أنجز أوراقه في القنصلية ومضى، ثم سخرت أمة “لا إله إلا الله” من تقلب البعض لتبني رواية الرياض الثانية.
وما بين الإنكار والإقرار بعملية القتل تعرت صحافتنا، ما دفع بعض أولياء الصحافة الصالحين إلى البكاء على مهنة فقدت ظلها، خاصة أن بعضهم عايش عصورا لعبت فيها صحافة مصر أدورا جوهرية في قضايا التحرر والاستقلال، اسقطت حكومات وحاصرت وزارات ونقلت نبض الناس .
كتب الأستاذ وحيد حامد عن أسباب حزنه على “إعلام الريادة والشعبية الذي كان داعما لسياسة الدولة بمنطق خافت وقليل من الحكمة، والذي لم يحدث أن غلبه أي إعلام آخر، والذي حارب ولو كذباً نماذج الفساد والإهمال والنفاق، إذ ربما تحدث نتيجة”.
حمل حامد وغيره ممن غاروا على تلك المهنة مسئولية تراجع الإعلام إلى السلطة التي أحكمت قبضتها عليه وأجرت عمليات تأميم وحصار طالت معظم المنصات، فسقطت جميعا في حفرة عميقة ليس من المتوقع الخروج منها، ما دفع الجمهور إلى اللجوء لمنصات أخرى يبحث فيها عما يشبع رغبته في المعرفة، بعد أن ثبت في يقينه أن صحافتنا تمارس عليه كل فنون التضليل.
في المقابل انطلقت حملة لا تستهدف الرد على من يتحسر على المهنة فحسب، بل الإجهاز على ما تبقى منها، بتشكيك الجمهور في كل من يمارس مهنة الكلمة “منافقون متربحون فاسدون منفلتون.. وبضاعتهم فاسدة فلا تمدوا أيديكم إلي بضاعتهم”.
حملة تشويه المهنة قادها زملاء يعملون في منصات استحوذت عليها السلطة خلال السنوات الثلاث الماضية، وهجرها جمهورها بسبب تدني المحتوى التي تقدمه، فما كان منهم إلا يقرروا أو يُقرر لهم بتشويه الجميع وإفقاد المتلقي الثقة في كل ما يقدم له.
أزمة الصحافة والإعلام في مصر لم تنكشف بحادث خاشقجي، فالأزمة أبعد وأسبق والحفرة التي سقطنا فيها تتعمق يوما بعد يوم، والسلطة لا تدرك أن هندستها للمشهد الإعلامي بهذه الطريقة ستؤدي بالمجتمع كله إلى الاستقرار في قاع الحفرة التي حفرتها للإعلام، فعندما تغيب الحقائق ويختل الرأي تضيع البوصلة ويتوه الوطن حكاما ومحكومين.
في مناقشة مع مسئول عن حال الإعلام والصحافة، صدمت بتعبيره “إن السلطة في مصر لا تريد إعلاما حرا بل لا تريد إعلاما من أساس”، فالناس من وجهة نظر هذا المسئول “أقل وعيا من أن تستقبل محتوى إعلاميا فيه تنوع”، وضرب مثلا بما جرى قبل وأثناء ثورة 25 يناير 2011، وتسأل “عايز الفوضى ترجع تاني.. بناقص صحافة وبناقص إعلام”.
تلك إذن هي نظرة السلطة أو على الأقل جناح فيها، فحرية الصحافة أو تنوعها بأي قدر يساوي الفوضى، لا يدري هذا الرجل أو السلطة التي يعبر عنها أن غياب أو تغييب الإعلام سيكون السبب في الفوضى، وسنفاجئ جميعا بهزات لم يبشر بها أحد، فهذا الأحد كُتم صوته وغُيب رأيه، ولو حدث ووجد نافذة ليطل منها على الناس قُمع وفُتحت له السجون أبوابها.
يا سادة، لن ينفع الوطن ولن ينفعكم، إسكات الأصوات وتكميم الأفواه، فخيرا لنا جميعا أن نجد من يحذركم وأيانا من انفجار البركان قبل أن تحل الكارثة.. لا تستمعوا إلى أصداء أصواتكم، وافتحوا الباب أمام مخالفيكم بدلا من تغلق علينا جميعا الأبواب.