لقاح الفن.. هؤلاء تعاطوا الإبداع دواءً لمواجهة كورونا في العزل المنزلي (صور وفيديو)
في ظل جائحة عالمية ظهرت مع مطلع العام الجاري، أزهقت أرواح مئات الآلاف من البشر وتستمر في التهام ضحاياها، وحتى الآن يتسابق العالم بأكمله لإيجاد ممر آمن يعبرون من خلاله تلك الفترة المظلمة، هناك من اكتشفوا وجهًا آخر لـ”كوفيد-19″ غير ذلك الشاحب، وأنتجوا لقاحًا يداوي من خلفه الوباء في النفوس، فاستخدموا الفن بأشكاله المختلفة سبيلًا للبوح وسكينة لآلامهم، وآخرين وجدوا فيه أداة للتوثيق والتوعية.
أهرب بالألوان
الأسرة جميعها تلتف حول بعضها البعض تحتفل بعيد ميلاد الشقيقة الأصغر، بينما هي تقف وحيدة على عتبة غرفتها بملامح حزينة متعبة، مرتدية الكمامة الواقية في يومها الثاني من الإصابة بفيروس كورونا، تختلس النظرات وكل ما ترجوه أن تكون برفقة أختها في تلك المناسبة كما جرت العادة منذ ولادتها، تتصاعد أنفاسها وتتألم في صمت، تدخل غرفتها وتخلع عنها الكمامة ممسكة بقلم يتعارك مع صفحاتٍ بيضاء في محاولة منها للبوح عن آلامها.
لغة الخطوط والألوان هي اللغة التي تعبر بها خلود كمال عن حالتها، وفي ظل وجود جائحة عالمية اختارت أن توثق لحظاتها التي عاشتها كيوميّات لـ”كوفيد-19″ وأن تكون فرشتها أحد أهم عوامل النجاة من قساوة التجربة، ترصد فيها التتابع وتغير الشعور من يوم لآخر وكذلك معاناة الأعراض.
تروي مصممة الجرافيك أن طوال فترة مرضها كانت تضع ورقة وقلمًا على مقربة منها، تقوم برسم خطوط بسيطة معبرة عن أحداث اليوم بسبب ثقل آلامها، وفي الأسبوع الرابع من الإصابة وبعد التعافي أكملت رسوماتها بتدعيم الألوان وبتفاصيل كاملة.
“الرسم ساعدني أتخطى قساوة الأيام”.. الفتاة صاحبة الواحد والثلاثين ربيعًا تروي لـ”القاهرة 24″ دور الفن لاجتياز تلك الفترة، ففي وقت فرض عليها كورونا العزلة الكاملة وكانت تفتقد فيها رؤية الأهل الموجودين تحت سقف المنزل نفسه والأصدقاء، كان الرسم خليلها الوحيد.
بعد النجاة حاولت خلود أن تعطي للبقية أملًا في الشفاء، وبدأت في نشر يومياتها كل ليلة بما تحمله من أحداث وتفاصيل جديدة، كمسلسل ينتظره الجميع يوميًا لمعرفة أحداثه، وتقول: “فكرة الخوف من المجهول مسيطرة على كل الناس، والمجهول المرعب للناس بالنسبالي بقى معلوم فحبيت أوصل للناس إنها صعبة وتقيلة ولكنها مرت.. طول الوقت فيه أمل، كورونا مش نهاية العالم”.
ولسه جوة القلب أمل
في الساعات الأولى من صباح اليوم، يستيقظ الشاب الثلاثيني ويجول بنظره في أنحاء الغرفة، مفتشًا عن أكبر مساحة يمكن استغلالها في مضي الوقت وهزيمة الشعور بالآلام، ليختار “شبابيك وأبواب” المنزل ويمسك بقلمه بين أنامله كاتبًا كلمات معدودة اعتاد أن يكتبها بمجرد فتح عينيه من غفوته في محاولة للعلاج، مثل “ولسه جوة القلب أمل” بكلمات متداخلة يدعمها بكلمات كـ”حرية، حياة، قوة، وإنك بأعيننا” ليتحول معها الزجاج للوحة فنية على مدار ثلاثة أسابيع من العزل في عمل يتكرر يوميًا.
“نضال بدر” مهندس معماري، قبل إصابته بفيروس كورونا كان دائم التنقل من موقع لآخر، ولا يتسنى له سوى قضاء ساعات قليلة في منزله على مدار سبعة عشر عامًا من عمله، وفي ليلة وضحاها يجد نفسه حبيس أربعة جدران لفترة طالت ثلاثة أسابيع لأول مرة، ليأخذ الفن سبيله لتجاوز ثقل الساعات التي لا تمر بالخط العربي.
يتقاسم نضال مع خلود إيجاد النجاة في الفن، ففي أسبوعه الأول من الإصابة اشتدت عليه أعراض “كوفيد-19″، ولكنه شد العزم على محاربة الفيروس واستغلال ذاك الوقت على أكمل وجه، ويروي: “مع أقل مجهود كنت بتعب جدًا، حرارتي ماكنتش بتنزل في البداية وألم رهيب في العضم، طول الوقت كان تركيزي على إني هغلب المرض ومش هستسلم، ومش هضيّع وقتي، مش هفضل أبص في السقف، بعالج نفسي وبستغل موهبتي”.
“مساكين بنضحك من البلوة، زي الديوك والروح حلوة، سرقاهم السكين حموة.. ولسة جوة القلب أمل”، كلمات كتبها نجيب سرور وغناها الشيخ إمام، تعود لعشرات السنوات، كانت كطوق النجاة لنضال، يرى فيها أنها أقوى سلاح استخدمه في مواجهة كورونا، مسردًا: “أكتر كلمة كنت بردّدها وبكتبها أول ما بصحى على كل حاجة قصادي، ودا كان أقوى أسلحتي في مواجهة كورونا، لقيت نفسي فيها وكانت بتدّيني دفعة نفسية كبيرة، بالرغم من الألم والوجع بس لسة فيه أمل”. وخلال أسبوعين من الاستراحة من صخب العمل، سمح له الوقت للخروج بمجموعة تصميمات لملابس، تحمل الكلمات نفسها.
“تبقى حرارتي عالية جدًا وبعافر عشان أقدر أقوم، وأنا مش قادر أدوس على الأرض.. مش هلعب اللعبة دي.. وأنا تمام ومش فيروس هيتحكم فيا” يصف نضال حاله حينها، ويختتم حديثه قائلًا:” كورونا هو حرب نفسية بحتة.. ولو دخلنا بخناقة هنتغلّب عليه وإحنا نقدر وأنا قدرت بالفن”.
مشاهد وألوان
الإسعاف، مراكز الأشعة، التحاليل، لحظات انتظار النتيجة، الأطباء، أنابيب الأكسجين، الأدوية والفقدان الكامل لحاسة الشم والتذوق، كلها مشاهد كانت تحاول “نورهان” أن تتغافل عنها ولكنها دائمًا ما كانت تدق أبواب الذاكرة بعد التعافي من الإصابة بفيروس كورونا؛ لتلجأ إلى الورق والألوان في محاولة للخروج من دائرة المرض الموجعة بداية من الإصابة وحتى التعافي، وفي الوقت نفسه توثق قدرتها هي وعائلتها على سحق الجائحة العالمية.
بعد مرور ثلاثة أسابيع من الإصابة، ومع بداية التعافي، تتذكر نورهان عسل، تجربتها بكل ما تحملها من تفاصيل مؤلمة، والتي بدأت مع مطلع يونيو الماضي، بإصابة والدها لتنتقل بعدها العدوى لأفراد الأسرة كاملة.
لم تكن تتخيل الفتاة التي تخطو نحو الـ24 من عمرها، أن تكون التجربة بتلك القسوة، وكل ما تباليه توعية الناس بوصف الأعراض عن طريق رسوماتها الست، بعيدًا عن تناول الإعلام الخبري، فهي ترى أن أي شكل للفن سيصل بالرسالة كاملة للناس. مردفة: “حبيت أوثق أنه بالرغم من شدتها خرجنا منها، وأوصل للناس إن الموضوع مش صعب ولكنه مش سهل بس هيعدّي”.
الإعداد للتوثيق والتفكير في طريقة الرسم المناسبة لوصف شعور الأعراض، لم يكن بالأمر الهيّن على نورهان، وحتى بعد نشرها لرسوماتها على “فيس بوك” كانت في كل مرة ترى فيها تلك الرسومات تشعر بغصة تذكّرها بالتجربة، فتقول: “وأنا برسم كان صعب عليا أفتكر اللي مريت بيه بتفاصيله المؤلمة عشان أقدر أوصّله، وصعب إني أقعد أتكلم مع أفراد أسرتي وأعرف كل حد فيهم عاش الوجع إزاي”.
كل مر سيمر
القدرة على البوح وخروج الكلمات، مشقة كانت تدوِّي بـ”عهود كمال” بعد انتقال العدوى لها من شقيقتها الكبرى خلود، كلما طلب منها أحد وصف ما تعاني منه من أعراض، ترى في آلام كورونا وجعًا مختلفًا لا يوصف بحروف، فكل ما يدور بمخيلتها صور تحاكي احساسها. لتوثق تجربتها بمزج من الصور والفنون البصرية.
تقول ذات الـ24 عامًا، إنها في العادة لا تميل لاختيار الصور الفوتوجرافية، لكن في تلك الحالة رأت أنها الوحيدة القادرة على توصيل الحالة وتوثيق المكان بكافة تفاصيله من إضاءة وأوضاع عاشت فيها كما هي، مضيفة: “اخترت فيديو موشن لأنه يقدر يوصّل الصورة حية وكنت قاصدة في الصور يكون المكان مش مرتب ولا متذوق.. زي ماكنت فيه بالظبط، حتى شكلي أنا شخصيًا، عايزه أوصّل الواقع زي ما هو من غير تذويق”.
بدأت عهود رحلتها مع كورونا في 12 يونيو الماضي، بأعراض شديدة تترك أثرها عليها حتى الآن، فالتجربة النفسية أشد حتمًا من الأعراض الجسمانية، فتسرد: “الأعراض ماكنتش هينة أبدًا بالنسبالي وكنا كل يوم بنكتشف عرَض جديد، يمكن التعب دا من أصعب الحاجات اللي مريت بيها لكن فكرة العزل وإني مش قادرة أشوف أهلي وبينا حيطة مرعبة، كل تواصلنا كان على الموبايل.. وجود الناس بيفْرِق، والأكيد إن وجودهم جنبي كان هيهون شوية من وجع الأعراض”.
نشرت خريجة كلية الفنون الجميلة تجربتها كرسالة طمأنينة، تريد أن تخبر الجميع أنه بالرغم من قسوة التجربة إلا إنها مازالت تعافر مع الحياة وحتمًا كل مر سيمر.
شاهدت الأم تجربة ابنتها على الواقع الافتراضي كمثل الغريب؛ لما فرضه كورونا من واقع جديد نعيشه، قائلة: “أمي شافت تجربتي على الفيس بوك، واتأثرت جدًا لأن وصلها اللي حسيت بيه، اتضايقت إن يوصلها وجعي وتتعب كأم نفسيًا، ومن ناحية فنية اتبسطت إني قدرت أوصّل اللي جوايا”.