“أنا مش بعيد!”
الفنان الراحل “صلاح نظمي” لما كان شاب حب بنت أرمينية.. قرر يتقرب منها عشان يلفت نظرها.. إتخانقت معاه، وحرفيًّا فرّجت عليه الشارع!.. زاد إعجابه بيها وراح اتقدم لأسرتها.. اتجوزوا وبدأت قصة حبهم اللي عاشت طول حياتهم، وخلفوا ابنهم “حسين”.. للأسف بعد مرور 11 سنة على الجواز اللي كان سنة 1951 أصيبت مراته بـ مرض صعب شوية خلاها طريحة الفراش وعلى كرسي متحرك!.. زوجة جميلة، وفى بداية حياتها فجأة تبقى كده!.. صمم “صلاح” يخدم زوجته فى كل تفاصيل يومها.. الأكل، الشرب، دخول الحمام، العناية بالبيت، وبابنهم!.. ومع كل اللى فات ده برضه بيشتغل فى المهنة بتاعته وبيحقق فيها نجاح!.. طيب تمام بس كل حاجة وليها آخر.. مش دايمًا!.. الحالة بتاعتها استمرت قد إيه؟.. سنة أو اتنين أو تلاتة؟.. لأ.. 30 سنة كاملين!.. رفض خلالهم يتجوز واحدة تانية أو يبخل عليها بمجهوده فى رعايتها!.. حتى فلوسه اللي كان بيقبضها من التمثيل أول بأول كان بيصرفها عن طيب خاطر على علاجها!.. كانت بتقول له: (اتجوز عشان تعيش بقية حياتك).. فكان يرد: (والله لو انتي عضم فى قفة مش ممكن أتجوز عليكي أبدًا).. إستمر الوضع على ما هو عليه واتوفت زوجته فى سنة 1990، ودخل “صلاح” بعدها فى نوبة اكتئاب ثم بقى نزيل فى غرفة العناية المركزة وفضل فيها شهور طويلة لحد ما اتوفى هو كمان سنة 1991.
الإعلامية “معتزة مهابة”، وأثناء حوارها اللي كان من فترة مع الفنان الراحل “حسن كامي” فوجئت بيه إنه كان لابس ساعتين فى إيده!.. واحدة فى اليمين والتانية فى الشمال!.. سألته.. رد إن التانية دي ساعة زوجته الله يرحمها، وهى رايحة أوضة العمليات إدتهالوا وقالتله إلبسها لحد ما نتقابل تاني.. بس للأسف اتوفت فى العملية، وفضل هو على العهد لابسها سنين كتير لحد وفاته هو كمان!.
فى الهند سنة 1959 وتحديدًا فى قرية صغيرة تابعة لمدينة اسمها “جايا” فى ولاية “بيهار” شمال شرق الهند، كان عايش عامل بسيط اسمه “داشرات مانجي”.. “داشرات” بيشتغل فى منجم فحم من المناجم الكتير المنتشرة فى المنطقة دي.. طبيعة بيوت القرية أساسًا كانت أقرب للعشش من كونها بيوت من طوب وجدران، ومعظم الأهالي كان حالهم على القد زي حال عم “داشرات”، وحتى برضه أغلبهم بيشتغلوا فى المناجم زي بعض.. سبب لجوء المسئولين عن المناجم لسكان القرية كان أساسه إنهم فقراء وهيرضوا بقليلهم وعمالة غير مكلفة على الإطلاق!.. “داشرات” متجوز من السيدة “فالغوني ديفي”.. كل يوم على الضهر كده كانت “فالغوني” تاخد بعضها وتاخد معاها لفة الأكل اللى عاملاها لجوزها عشان ياكل، وتقعد معاه شوية وترجع!.. حاجة كده قريبة من أهالينا فى القرى زمان ويمكن لحد النهاردة لما الست كانت تروح بنفسها للغيط أو تبعت حد من ولادها عشان يودوا الأكل للراجل.. روتين يومي كانت بتعمله “فالغوني” بمنتهي الحب لجوزها اللي كان واضح إنها اكتفت بيه من الدنيا والناس.. الطريق اللي كانت بتمشي فيه “فالغوني” يوميًّا عشان توصل للمنجم كان بيتطلب إنها تطلع فوق منطقة جبلية عالية وتمشي على طريق صخري متعرج ومش سالك وبيحتاج مشي بحذر عشان لو رجليها اتزحلقت ممكن تلاقي نفسها إتكحرتت.. مع الوقت ويوم عن يوم ولإنها برضه مش متربية فى قصور يعني كان الموضوع بالنسبالها طبيعي وسهل!.. “داشرات” نفسه كانت اللحظة اللي بيشوف فيها “فالغوني” وهي جاية عليه بينسى التعب اللي هلكان فيه من بعد الفجر، وبيقدر بعد القعدة اللي بيقعدوها سوا إنه يواصل شغل لحد بالليل قبل ما يبدأ هو كمان رحلة عودته للعشة عشان ينام ويستعد لليوم اللي جاي وهكذا.. “فالغوني” بقت حامل، وحتى مع صعوبة الحركة بالنسبة لوضعها الجديد كانت مصممة على نفس الروتين اليومي بتاع مشوارها لجوزها.. فى يوم أثناء الرحلة وهى ماسكة الأكل داخت بسبب الحمل وماحستش بنفسها غير وهي بتقع من فوق المنطقة الصخرية العالية للأرض وطبعًا خلال المسافة دي كان وشها ورجليها وكل جسمها اتبدهلوا.. مش كده بس ده فيه كمان شوية صخور حادة اتغرست فى جسمها كإنها طعنات سكاكين، وعقبال لما استقرت على الأرض كان أغمى عليها وكل جسمها بقى دم بسبب الجروح والنزيف!.. الناس شافوها وجريوا عليها عشان يلحقوها.. فيه شاب برضه طلع جري على مكان المنجم عشان يبلغ جوزها.. الناس أخدوا “فالغوني” للعشة بتاعتها وحاولوا بالطرق البدائية بتاعتهم وإمكانياتهم المحدودة إنهم ينقذوها.. لما وصل “داشرات” للعشة كان واضح من ملامح الناس اللي باصين فى الأرض إن مراته خلاص على وشك إنها تموت!.. بدون تفكير ولا وعي دخل عشان يشيلها ويطلع بيها على أقرب مستشفى.. طيب هما ليه أهالي القرية ماعملوش كده من نفسهم أصلًا!.. القرية موجودة تحت جبل ضخم.. “نظريًّا” أقرب مستشفي بالنسبة للقرية موجودة فى مدينة “جايا”، ورا الجبل مباشرة بمسافة لا تتعدى الـ 7 كيلو متر.. حلو!.. لأ مش حلو.. لإن “عمليًّا” الجبل ضخم جدًّا ومحاوط القرية ومفيش أي منفذ ينفع حد يعدي من خلاله عشان يوصل للمستشفى!.. طيب والحل؟.. إن اللي عايز يروح للمستشفي لازم يلف لفة شاقة حوالين قاعدة الجبل كلها بمساحتها غير المعقولة، وده بيخلّي المسافة تبقي 70 كيلو متر!.. يعني 10 أضعاف المسافة الطبيعية!.. طيب يتصلوا بإسعاف؟.. مفيش تليفونات.. طيب أي حد معاه عربية ياخد الست وجوزها!.. مفيش برضه عشان أهل المكان ناس غلابة، وحتى أغلبهم ماعندهمش أحذية مش عربية، وبعدين إحنا بنتكلم فى أواخر الخمسينات!.. “داشرات” شال مراته وقرر يمشي بيها الـ 70 كيلو.. طبعًا لا وضعها الصحي، ولا قوته هو الجسمانية كانوا هيسمحوا إنه يمشي بيها حتى مترين!.. بس أهي محاولة يائسة بائسة عملها الراجل وهو بيشوف أهم إنسانة ليه على وش الدنيا وهي بتفارق الحياة.. ماتت “فالغوني” بين إيدين جوزها.. تقدر بسهولة تتخيل كمية الحزن اللي كان فيهم وحالة الندب واللطم على وشه وهو بيهز مراته الجثة اللي قدامه وبيحاول يخليها تقوم ترد عليه.. فقد حتة من قلبه بسبب ظرف هو مالوش دعوة بيه ولا ذنب.. فضل “داشرات” مكتئب فترة مش قليلة، وساب شغله، وقعد فى العشة.. مر عليه الوقت فى لحظات تأمل قاسية بين البص على المكان اللى كانت بتنام عليه مراته، وبين البص لـ تحت ودفن راسه بين رجليه اللي كان ضاممهم على صدره وهو قاعد على الأرض!.. هيعمل إيه دلوقتي، وده واحد كانت حياته كلها بين حاجتين مالهومش تالت.. مراته.. وشغله.. دي الدنيا كانت هتبتدي يبقي ليها طعم أحلي كمان لما كان ابنه أو بنته هييجي.. دلوقتي بقى لوحده.. مابقاش ليه غير شغله!.. وحتى ده مابقاش له معنى ولا شغف دلوقتي.. عينه جت على الفاس اللي الصدأ أكل معظمه والشاكوش الضخم اللي كان بيستخدمهم فى المنجم.. عينه مرت عليهم عادي بدون اهتمام.. لحظة تفكير.. رجع بص عليهم تاني بسرعة وكان فيه بذرة فكرة بدأت تتكون فى راسه.. تاني يوم الصبح بدري فى نفس ميعاد خروجه للمنجم فوجئ الجيران بـ “داشرات” خارج من العشة فى ميعاده اليومي أيام ما كان شغال.. كل ما حد بيشوفه كان بيجري عليه عشان يسلم عليه ويهنيه إنه أخيرًا بقى مؤمن إن الحياة لازم تمشي، وإنه خرج من عزلته.. كان بيتحاشي السلام والكلام مع الكل وماشي بثبات فى اتجاه مركز فيه وواضح إنه مش عايز حد يمنعه عنه!.. وصل لـ تحت قمة الجبل.. انتظر لحظة.. وبدأ!.. بدأ إيه؟.. بدأ يضرب فى جسم الجبل بالأدوات بتاعته كإنه بيعاقبه إنه كان حائل من إنقاذ مراته!.. كان بيضرب بالفاس والشاكوش الحديد بتوعه اللي الصدأ أكل نصهم فيه بمنتهى القوة والغِل!.. طبعًا كل الناس اللي شافوه كانوا خلاص تأكدوا إن الراجل ربنا يلطف بيه وبقى فى حتة تانية خالص من المهلبية، وإن موت مراته ضيع اللي باقي من عقله.. فيه اللى حاولوا يمنعوه بس فضل مكمل!.. خلص إمتى؟.. بالليل قبل غروب الشمس!.. يعني فضل تقريبًا نص يوم بحاله شغال فى اللي بيعمله!.. تاني يوم اتكرر نفس السيناريو بحذافيره.. بعد الفجر يخرج “داشرات” من العشة فى اتجاه الجبل.. مايسلمش ولا يتكلم مع حد.. يوصل لـ القاعدة بتاعته.. يبتدي يضرب فيه!.. عدى على الموقف ده أسابيع.. فيه واحد من الجيران كبير فى السن شوية صعب عليه “داشرات” فراح عشان يتكلم معاه، وواضح إن الراجل ده كان له قدر من الاحترام والتقدير عند كل الأهالي ومنهم “داشرات”.. الراجل سأله: (إلى متى يا بني؟).. “داشرات” اللي رد بدون ما يبص عليه: (إلى أن أنتهي من الطريق يا عمي).. الراجل سأله: (أي طريق!).. رد: (طريق داخل هذا الجبل اللعين الذي حرمني من “فالغوني”).. الراجل تفكيره عطل لحظة، وهو بيحاول يوزن كلام “داشرات” فى دماغه!.. ده اتجنن حرفيًّا، ومش بيعمل اللي بيعمله كده وخلاص لأ ده فى باله هدف، وهدف مستحيل.. يحفر طريق فى الجبل!.. حاول الراجل يخفف عنه بكلمات تطييب خاطر وإن اللي حصل حصل وهى دلوقتي فى مكان أحسن ومفيش داعي للي بتعمله وكلام من هذا القبيل.. “داشرات” وقف شغل، وبص فى عين الراجل وقال له: (عمي!، حقها عليَّ أن أنتقم مما تسبب فى موتها، وأحمي الآخرين أن ينالوا نفس المصير لنفس السبب!).. الراجل قاطعه: (هذا جنون!).. رد: (بل وفاء!، لن تنعم “فالغوني” فى حياتها الأخرى إن لم أفعل هذا).. الراجل خبط كف بـ كف، وحس إن الكلام مالوش أي تلاتين لزمة، وسابه ومشي.. خلاص بقت الناس متعودة على اللي بيحصل من “داشرات” وبقى فيه اللي بيتعامل معاه بسخرية.. الغريب، واللي مش منطقي فعلًا إنه استمر فى اللي بيعمله فعلاً مدة كبيرة!.. لأ كبيرة كبيرة يعني.. قد إيه؟.. 22 سنة متواصلة!.. شغال بدون كلل ولا ملل لحد سنة 1982 وكل حياته مسخرة بس للهدف ده!.. يشق طريق فى الجبل.. فى أواخر سنة 1982، وتحديدًا فى الشتاء كان “داشرات” وصل لنهاية آخر نقطة يقدر يوصل لها فى الطريق اللي عمله.. طريق مباشر لمدينة “جايا” اختصر المسافة لـ 7 كيلو فقط لا غير.. راجل واحد وبدون أي مساعدة وولا حد شارك معاه حتى بـ ضربة فاس؛ قدر يعمل اللي كانت الحكومة الهندية وقتها تقدر تعمله فى 3 شهور بس لكن هما كسلوا!.. والسبب؟.. عشان كان وفي، ومخلص لزوجته للدرجة دي، ولإنه شاف إن فيه تار بايت بينه وبين اللي قتلها.. الطريق، والجبل!.. بمجرد ما وصل لنهاية الطريق الخبر انتشر فى كل مكان فى الهند، والحكومة الهندية اللي كانت زيها زي الناس فاكرة إن الراجل ده مجنون وسيبوه يخبط يمين وشمال لحد ما يموت ولا يتعب؛ جريوا عشان يكرموا “داشرات”!.. اسمه اتكتب فى كل الصحف فى الهند.. بعدها بكام يوم اسمه بقى حديث كل وكالات الصحافة فى العالم.. الحكومة عملت مستشفى فى القرية بتاعته ومدرسة عليهم اسمه كنوع من التكريم له، ورئيس الحكومة جه لحد عنده واعتذرله رغم إنه مالوش ذنب فى حالة الطناش اللي حصلت، واللي كان سببها حد من العشروميت حكومة اللى قبل كده، واتغيروا أصل إحنا بنتكلم فى 22 سنة مش سنة ولا اتنين.. كان الرد الثابت بتاع “داشرات” إنه مش زعلان من حد، وإنه حاسس دلوقتي إنه ارتاح ووفى بـ الدين اللي فى رقبته لمراته، ومنع اللي حصل لها يحصل مع حد غيرها.. مات “داشرات” فى 17 أغسطس 2007 بس بعد ما أثبت إن اللي بيحب بجد لازم يكون عارف حاجتين: الحب يعني وفاء، والحب ميعرفش مستحيل.
الشاعر الجميل “نزار القباني” قال: (اغضب كما تشاء، واذهب كما تشاء، واذهب متى تشاء؛ لا بد أن تعود ذات يوم وقد عرفت ما هو الوفاء).. مش هتمر على الدنيا إلا لما تكون قابلت على الأقل نموذج واحد مالوش زيّ في الوفاء أو مالوش زي في الخيانة أو الاتنين سوا!.. الوفاء له درجات، وأنواع زي أي حاجة فى الدنيا.. وفاء لـ ذكرى.. لـ شريك.. وفاء لـ مكان كان بيجمعهم.. أو وفاء لـ كلمة، ووعد!.. فى كل العلاقات الرقيب عليك فى وفائك للطرف التاني “نفسك”.. أنا مش همشي أراقبك، ولا هربطك!.. الوفي هيشيل في وقت الوقعات.. هيلتزم بـوعود خرجت من القلب مش من اللسان.. هيحط سعادة وانبساط الطرف التاني هدف.. مش بيخون إلا اللي عينه فارغة، ومش بيوفي إلا الشبعان.. الزعيم “جيفارا” قال: (لا يقاس الوفاء بما تراه أمام عينك بل بما يحدث وراء ظهرك).