مذكرات رفعت السعيد.. ماذا قال لمبارك عن 25 يناير وتفاصيل التقارير التى رفعها لعمر سليمان عن الثورة (صور)
كشف الدكتور رفعت السعيد المفكر السياسي الراحل، فى مذكراته عن عدة لقاءات جمعته بعدد من كبار المسئولين، بدءاً بـ«رجل المخابرات الغامض»، قبل ثورة 25 يناير بعدة أيام، أو أثناء مفاوضات تشكيل عدة وزارات، وإعلانه التام رفضه إسناد أى منصب رسمى له على الهواء مباشرة، وتفاصيل ما جري فى الكواليس قبل تنحي مبارك والموقف السياسى للمشهد العام وقتها بجانب علاقاته ووساطته فى مفاوضات الأسرى الكويتين مع العراق.
ويشير المفكر السياسى الكبير في المذكرات التى نشرتها جريدة “الوطن” وينقلها لكم “القاهرة24“، إلى أنه التقى بـ5 من كبار أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب «25 يناير»، وكان من بينهم الفريق محمود حجازى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الحالى، واللواء محمد العصار، عضو «المجلس»، ولكنهم لم يفضلوا الحديث، وبدأ اللواء أركان حرب عبدالفتاح السيسى، مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع حينها، فى الحديث، وشرح كل جوانب، ومواقف القوات المسلحة حينها، فى لقاء امتد لساعات طويلة، حسب «السعيد».. وإلى نص المذكرات:
«وما بين مقاربات مبارك ومقاربات المشير.. صفحات مع عمر سليمان»
عمر سليمان، الذى كانوا يسمونه فى الصحافة الغربية «رجل المخابرات الغامض»، وأحياناً «القوى»، شخصية فعلاً تليق بهذا الاسم، فإذا كان كثيرون قد قرأوا كتباً ومقالات وشاهدوا مسلسلات عن صراعات مع المخابرات الإسرائيلية حققت مخابرات عمر سليمان نجاحات مبهرة فيها، فما إن جلست إليه فى المرة الأولى حتى تصورت أن كل ما قرأت وشاهدت وسمعت قد تجمع ليتركز فى هذه الشخصية الهادئة جداً والوديعة جداً والذى تتأمل ملامحه فلا تجد فيها أى تضاريس، فقط وجه أملس يشبه أوجه القادة الرومانسيين، وعينان بلا عمق، ربما لأنهما بئران عميقتان تحتويان من الهدوء ما يخيف الناظر إليهما.
وكان اللقاء الأول عندما أتانى «عم عبدالعليم»، الساعى المسئول عن فتح وإغلاق ونظافة مقر «الأهالى» القديم فى شارع عبدالخالق ثروت، ليبلغنى بأن شخصين تلقفاه فى الشارع أمام فوهة المبنى، حيث المقر، وببساطة قالا له: «عايزين مفاتيح الأهالى لنصف ساعة لنعمل نسخة منها».. فلما رفض قالا إنهما من «المخابرات العامة»، وسألهما كيف يعرف أنهما من المخابرات، قطع أحدهما ورقة من مفكرة صغيرة فى جيبه وكتب رقمى تليفون أرضى وطلب منه أن يطلب أى رقم منهما ويطلب مكالمة المهندس فلان وسيرد عليه أحدهما، فراوغهما حتى الغد، وأتى إلىّ فى مقر الحزب وأخذت منه الورقة الصغيرة، ومن عم عبدالعليم إلى غرفة الأستاذ خالد واقترحت دون أى فطنة أن يطلب عبدالعليم أحد الرقمين ويحدد معه موعداً وأذهب أنا معه لألقنه درساً. وصمت الأستاذ خالد ليلقننى بعدها درساً لا يُنسى، إذ قال «تعلم ألا تلاعب النمر»، فـ«النمر مستفَز بطبعه»، وكان عم عبدالعليم قد توجه مع محامى «الأهالى» بطلب من مسئول إدارى فى الجريدة إلى مأمور قسم عابدين، وبدأ المأمور بحيوية دافقة فى تحرير محضر ضد… ثم ما إن سمع اسم «المخابرات العامة» حتى ارتعب واتصل بمسئول ما.. وانتهى الأمر برفض تحرير المحضر، وقال روحوا للنيابة. وتفلسف أحد مسئولى الأهالى وقال لنذهب إلى النائب العام، لكن الأستاذ خالد علمنا ألا نلاعب النمر، وأدار قرص التليفون ليطلب من سويتش مجلس الوزراء رقم الوزير عمر سليمان، وطلب موعداً معه له ولى، كان الرجل كما توقعنا يمتلئ بهدوء ودون ترفع، ثقة فى نفسه ويتلاعب بابتسامة تبقى كما هى لكنها تحمل فى كل مرحلة معانى متعددة، وكنا نعرف أنه يعرف سبب الزيارة، إن لم يكن من أحد رجاله فمن المسئول الذى حدثه مأمور قسم عابدين. قال الأستاذ خالد بعد أن روى القصة ثم أضاف وأنا شخصياً أعتقد أنكم لا تحتاجون إلى المفاتيح فأنتم تستطيعون الدخول حتى من تحت عقب الباب، فاتسعت الابتسامة وقال «مش للدرجة دى»، وحاولت أن أتكلم فأدار الوزير الكرسى المريح والمتحرك بمجرد التفات من يجلس عليه.. وقال يا دكتور.. هو مقر الأهالى فين؟ قلت فى عبدالخالق ثروت.. وده فين؟ فأجبت (وأنا أعرف نهاية هذا الاستجواب البدائى): فى القاهرة. والقاهرة فين؟ وأجاب هو على نفسه عندما لاحظ أننى مستاء من بدائية الأسئلة، فقال القاهرة فى مصر وإحنا نشاطنا مقصور فقط على خارج مصر، وفيما أحاول الرد سبقنى الأستاذ خالد الذى يعرف أكثر منى فى فنون التعامل مع مثل هذه الحالات، فقال بهدوء لذيذ يبقى حضرتك تسمح لنا نبلغ النيابة لأن الاثنين دول ممكن يبقوا نصابين أو لصوص أو مخابرات أجنبية.
وهكذا تصادم هدوء مع هدوء، لكن الوزير أفلت متسائلاً: «هى الورقة دى فين؟»، وأخرجت الورقة من جيبى فأخذها وتأمل رقمى التليفون. وقلت وأنا مغتاظ أنا لم أطلب أى نمرة منهما لكيلا أحرج أحداً، وممكن حضرتك تطلب نمرة منهم دلوقت؟ فرد هادئاً: «مالوش لازمة»، ووضع الورقة على مكتبه، وشربنا القهوة وسلمنا وانصرفنا دون أى كلمة وكأن الأمر قد انتهى، ولم أجد كلمات تفسر هذه الواقعة حتى الآن.
وبعد سنوات كنت فى زيارة للكويت ضمن وفد لمجلس الشورى برئاسة د.مصطفى كمال حلمى، وكان أحد أعضاء مجلس الأمة الكويتى مسئولاً عن مصاحبة الوفد واسمه الخرينج، وأخذونا إلى زيارة مقررة لكل الضيوف آنذاك، حيث معرض أو متحف تُعرض فيه صور لعشرات ممن يسمونهم الأسرى الكويتيين الذين اختطفهم العراقيون خلال انسحابهم، صور لرجال وشيوخ كبار السن، وشابات وشباب وحتى أطفال. وفيما يلفنا جميعاً غيام من الحزن سحبنى الخرينج من يدى، وكان أيضاً أحد المسئولين فى لجنة الدفاع عن الأسرى، وسألنى «هل صحيح أنك صديق لشخص يدعى عبدالله حورانى؟»، فقلت «صحيح وهو صديق عزيز ورجل محترم»، فقال طبعاً طبعاً وكفاية أنك صديقه، وفى المساء دُعيت إلى لقاء مغلق ضم الخرينج وشخصين آخرين وطلبوا منى أن أرتب لهم لقاء مع حورانى فهو وفق تعبيرهم «واصل لكبار فى القيادة العراقية، ونريد وساطته للتفاهم حول مطالبهم مقابل إعادة الأسرى». (وأود أن أؤكد أن كل من التقيناهم فى الكويت من مسئولين وكبار مسئولين وأشخاص عاديين كانوا يتحدثون بثقة كاملة عن وجود هؤلاء المختطفين عند العراقيين يتخذون منهم رهائن كى يسلموهم مقابل ثمن، وكانوا مستعدين لدفع الثمن). واقترحت عليهم أن نلتقى فى القاهرة، وكانوا قد اقترحوا ترتيب لقاء على حسابهم فى أى مكان فى العالم، لكننى قلت لا أريد أن يتصور أحد أننا ننغمس فى ترتيبات سرية، وأنا شخصياً لا دخل لى فى الأمر. واتفقنا على أن أتصل بهم فور اتخاذ ترتيبات المقابلة، وفى الطائرة جلست إلى جوار د.مصطفى كمال حلمى، وأبلغته الأمر فقال نسأل الوزير عمر سليمان هل تتدخل أنت فى هذا الأمر أم لا؟ وفور عودتنا للقاهرة وفيما يبدو أن د.مصطفى كان متعجلاً فوجئت بمكالمة مباشرة «دون مرور عبر السكرتارية» من الوزير عمر وكان ودوداً وحكيت له الحكاية، فقال الحقيقة إن معلوماتنا تقول إن مفيش أسرى ولكن طالما هم طلبوا مساعدتنا، ساعدهم قدر استطاعتك، وتابع معايا باستمرار. واتصلت بعبدالله حورانى وقلت كلمة واحدة «عايزك»، فسأل ليه؟ قلت «لما تيجى»، قال إمتى؟، قلت بكرة. واتفقنا على موعد بعد بكرة واتصلت بالخرينج وجلسنا ثلاثتنا فى نادى السيارات، وما إن سمع عبدالله حورانى الموضوع قال «الحقيقة أنا لا أعرف هل هناك أسرى أم لا لكننى كمسجون سابق أعرف أن فى كل سجن ملاكاً أو مرتشياً يمكنه أن يسرب أخباراً من داخل السجن عنهم»، فقلت أرجوك حاول أن تسأل، قال سأحاول وأعتقد أن من يمتلك الحقيقة فى هذا الأمر هو طارق عزيز، فقلت أنت تعرف أنه صديقى فانقل له رجائى، ولأن الأمر قد يتطلب ترتيبات متعلقة بالسفر والمواعيد والتكاليف وكيفية التواصل، استأذنت وتركتهما معاً، وبعدها بعدة أيام عاد عبدالله إلى القاهرة، ونقل لى رسالة من طارق عزيز يؤكد فيها هو شخصياً إلىّ أنا شخصياً أنه لا يوجد أسرى، وأن التعليمات هى عدم نفى وجود أسرى ليبقى الأمر محلاً للمساومات، وسألته وما ستقول للخرينج عندما تقابله (وكنا رتبنا مقابلة لم أسأل عن تفاصيلها.. لأتباعد عن الموضوع)، فقال طلب طارق عزيز أن أبلغه «إن العراقيين يقولون إن هذا الأمر ليس محل نقاش الآن».
«عمر سليمان» لرفعت السعيد: «لم أكن أعرف أنك صديق لطارق عزيز إلى هذا الحد»
وبعدها بنصف ساعة اتصلت بـ«عمر سليمان» فوجدته يقول: «لم أكن أعرف أنك صديق لطارق عزيز إلى هذا الحد»، وسألته: المهم أنا مش عارف ماذا سأقول للخرينج إذا سألنى فقال اترك هذا الأمر، وحورانى سيبلغهم برد طارق عزيز، وتركت الأمر.
وتمضى سنوات عدة وفى بدايات أحداث يناير أو منتصفها زارنى واحد من رجال المخابرات قائلاً معالى الوزير عاوز يقابلك والتقينا فى مقر رئاسة مجلس الوزراء واكتشفت أن له مكتباً هناك وسكرتارية وترتيبات أمنية خاصة به، استقبلنى الوزير مرحباً موحياً للجميع بأننا أصدقاء قدامى، وسألنى: ما رأيك؟ وقلت رأيى بغاية الصراحة هو يماثل ما ذكرته فى صفحات سابقة فى كلمتى أمام مجلس الشورى فى جلسة 31 يناير بعد تهذيب لغتها وازدادت سخونة مع سخونة الأحداث، وقلت احذروا من الهروب إلى الأمام فهو لا يجدى، وكلما طالت المراوغة تصاعدت مطالب الجماهير ولا بد من حل جذرى، فسألنى يعنى إيه جذرى؟ قلت يعنى جذرى أى القبول الفورى بمطالب الميدان «عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية» والإطاحة برؤوس الفساد الذين هم تحديداً رؤوس النظام وأن يعترف الرئيس بمسئوليته عما كان من أخطاء وأن يؤكد صراحة أنه لا توريث، وأنه لن يترشح فى الدورة الانتخابية المقبلة لا هو ولا جمال.. أنصت بلا مقاطعة وقال للرجل الجالس معنا ليسجل كل حرف قلته «ابعت لى المحضر فوراً»، ثم قال «إنت مش ملاحظ إنك سخنت عن الورقة اللى فاتت»، فقلت لأن أحداً لم يستمع والتهبت الدنيا فالتهبت المطالبة.
.. ولكن ما هى الورقة اللى فاتت؟
ففى يوم الاحتفال الأخير بعيد الشرطة وقد حرص مبارك على إقامته قبل 25 يناير بعدة أيام، وبعد الاحتفال كان هناك عمر سليمان وحوله كالمعتاد لفيف من ذوى المصالح والمنافقين وهو يحاول أن يتخلص منهم بصعوبة ولكن بهدوء ومرونة رآنى فاقترب منى وسألنى إيه رأيك؟ فقلت «مش مرتاح» فقال حاكلمك النهارده، وركب سيارته مسرعاً، وطبعاً السيارات طبقات فسيارات الحاضرين تأتى حسب المراتب الأهم، فالمهم.. أما أمثالى الذين لا هُم أهم ولا مهم فسيارتى تأتى فى آخر الصف، وفى السيارة تلقيت مكالمة من ذات السكرتير تقول معالى الوزير عايزك تكتب رأيك واقتراحاتك كاملة وبأقصى سرعة، فقلت يعنى بكرة مثلاً؟ فأجاب: لا، حالاً، فقلت: مش معقول.. وقال: «اللى مش معقول إننا نتأخر عن كده»، وطلبت من السائق أن يسرع قدر ما يستطيع وعندما وصلت كان ثمة شخص يجلس مع الحرس الخاص بالمنزل، وسألت مين ده؟ فقال: أنا يا أفندم من المخابرات العامة ومنتظر الرسالة اللى حضرتك حتبعتها لمعالى الوزير، وكانت ليلى تنتظرنى لنتغدى معاً فحكيت لها الحكاية وجلست فوراً لأكتب بعد أن سلمتها التليفون طالباً ألا ترد على أحد، وكتبت بسرعة.. كتبت.. وكتبت، ولست أعتقد أن بالإمكان أن أتذكر ما كتبته بالظبط، ولكننى كتبت فى محاولة شديدة الصعوبة تحاول أن تختصر ما لا يمكن اختصاره، وأن تقول الحقيقة كما هى ولكن دون أن تدفع مبارك إلى المعاندة، فأنا أريد أن أكتب كلمات صريحة ومحاذرة محاولاً أن أتعامل مع مبارك الذى أعرفه دون أن أدفعه إلى إلقاء الورقة جانباً ومما أذكره أننى كتبت «ثمة شلة تحاصر اتخاذ القرار»، وقد علق عليها الوزير قائلاً «حلوة حكاية شلة تحاصر اتخاذ القرار دى»، وقلت: «الغضب موجود ومشروع ويجب ألا نستخف به بل يتعين تقبله والتعامل معه بذكاء، واقترحت حل لجنة السياسات وإعادة تشكيلها بعيداً عن ذوى المصالح، وجازفت فطلبت أن يعلن الرئيس أنه لن يترشح فى الانتخابات الرئاسية المقبلة كما أنه لن يترك الاختيار للمكتب السياسى للحزب وإنما سيفتح باب الترشيح على مصراعيه»، وأيضاً لاحظ عمر سليمان عبارة «على مصراعيه» وأعجبته. وأن تجرى الانتخابات الرئاسية شفافة تماماً وأن يعلن الرئيس قبل 25 يناير (كنا يوم 22 أو 23) هذه القرارات مصحوبة بتعديل وزارى جدى وتعيين شخصية تحترمها الجماهير كرئيس للهيئة البرلمانية للحزب.
ومع أول لقاء مع عمر سليمان بعد 25 يناير، سألته عن مصير الورقة، فتذكر من عباراتها ما ذكرت وبعض عبارات أخرى وقال إنه سلمها بنفسه لمبارك وقال «لقد دهش الرئيس دهشة بالغة ممزوجة ببعض الغضب وبعض التأمل ثم أعادها إلى المظروف ووضعه على المكتب دون أن يعلق».
وبإمكان القارئ أن يلاحظ الفارق بين ورقة ما قبل 25 يناير ومحضر ما قلته بعدها وهو فارق لخصه عمر سليمان لى «الأولى لإصلاح الصندوق والثانية من خارج الصندوق تماماً».
ونعود إلى ما بعد المقابلة التى أجراها عمر سليمان معى بعد 25 يناير وسجلها مساعده كتابة: «وطبعاً صوتاً وصورة»، ففى اليوم التالى دعيت إلى اجتماع مع عدد من رؤساء الأحزاب الكبيرة والصغيرة ومع حضور لافت للإخوان والنور، وفيما اتجه إلى المكان المحدد لى همس: «الرجل إياه الذى أعتقد أنه كان مديراً لمكتب الوزير لأنه كان يرافقه فى كل اللقاءات»، همس فى أذنى قائلاً: «معالى الوزير يرجوك أن تخفف قليلاً من المطالب حتى يمكن عرضها على الرئيس ومناقشته فيها». وكان ترتيب الجلوس مثيراً لدهشتى ومخاوفى فمقعد الوزير فى الصدارة وأنا مباشرة إلى يساره وحسام بدراوى، الذى أصبح أميناً عاماً للحزب الوطنى، على يمينه، وعلى يسارى كان د.سعد الكتاتنى النجم الإخوانى الذى صار لامعاً هذه الأيام ربما لإخفاء النجوم الأصلية، وعلى يمين بدراوى د.سيد البدوى (الوفد)، ثم مزيد من الدهشة، فبعد أن تحدث الوزير بكلمة قصيرة رحب فيها بالحضور وسأل نريد أن نعرف رأيكم، قال نبدأ بالدكتور رفعت السعيد وتكلمت فقلت تقريباً ما قلته فى المقابلة السابقة مع الوزير والذى سجله مدير مكتبه وقد خففت قليلاً جداً من بعض المفردات لكن الجوهر بقى صادماً كما قلته.
ثم كانت الدهشة الأخيرة وهى أن المتحدث الذى بعدى وكان د.حسام بدراوى قال بوضوح أنا متفق تماماً مع كل ما قاله د.رفعت السعيد، ثم تتالت الكلمات بعد أن خيمت غلاظة التعبيرات التى سقتها والتى تلبست مطالب صارمة وصادمة، لكن ما كان صادماً هو أن بياناً صدر رسمياً عن الاجتماع لم يعبر ولو بأقل قدر عما قيل وإنما عبارات مسطحة ومتجاهلة لما هو مهم، واتصلت بمساعد الوزير أو مدير مكتبه وكنت غاضباً، وقلت هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى أحضر فيها اجتماعاً كهذا.
وأود هنا أن أصارح القارئ، فأقول إننى أولاً صدمت فى الوزير عمر سليمان الذى تبدى أكثر من مرة مختلفاً أو محاولاً لأن يكون مختلفاً، وأننى ثانياً كنت قد استربت فى هذا الاهتمام المفاجئ بى وخشيت أن يكون ترتيباً لاستخدامى فى موقع ما، وكنت قد حسمت الأمر أنا وليلى وهو أننى لن أقبل أى موقع رسمى أو غير رسمى كبيراً كان أو صغيراً وانتهزت هذه الفرصة لأُشهر انسحابى، لكن قال لى تعالىالرجل بكرة الصبح قابل معالى الوزير، فقلت لن أحضر قال أرجوك اللقاء سيكون مهماً.. مهماً جداً.. ووافقت وأنا مستريب، وكان الموعد العاشرة صباحاً، وبعدها دعيت إلى مقابلة تليفزيونية فى صباح الغد أى ذات يوم المقابلة المبكر «برنامج صباح الخير يا مصر» وفى طريقى مررت على المقر المركزى للحزب فسمعت خبراً صادماً: منذ دقائق استشهد أحد شباب حزبنا فى التجمع برصاصة فى ميدان التحرير، وفى الطريق سمعت طلقات رصاص وتلقيت عبر التليفون معلومات بمزيد من الشهداء وحسمت أمرى نهائياً، وعندما بدأ التصوير ودارت الكاميرات قلت لمقدم البرنامج لدى خبر عاجل هل تسمح لى أن أبدأ به فقال تفضل.. وقلت «سبق أن حددوا لى موعداً الساعة العاشرة أى بعد ثلاثة أرباع الساعة مع السيد عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية وفى طريقى شاهدت وسمعت مذبحة فى التحرير وشباب يجرى اغتيالهم وسمعت نبأ استشهاد أحد شباب حزبنا، وأنا لا أقبل على نفسى ولا على حزبى ولا على تاريخى أن أتفاوض فى ظلال هذه الاغتيالات، ولهذا فإننى أبلغ السيد عمر سليمان على الهواء وأمام المشاهدين جميعاً: «يا سيادة النائب لا تنتظرنى»، فقال مقدم البرنامج الذى أشار إلى بإصبعه بعيداً عن الكاميرات بتأييد موقفى: لماذا لا تذهب وتتفاهم وتقول ما تريد؟ فقلت إن ضميرى لا يسمح لى بأن أتفاهم بينما الرصاص يحصد أرواح الشباب، وفيما أتحرك بالسيارة مغادراً التليفزيون، اتصل الرجل ذاته قائلاً «للأسف كان الاجتماع مهماً جداً»، فقلت «لا يوجد أهم من دماء الشهداء، واتجهت بالسيارة إلى مجلس الشورى لأسمع هناك أن تشكيلاً وزارياً يجرى ترتيبه وحمدت الله أن نجانى من هذه المقابلة».
وكان هذا هو آخر عهدى بالمقاربة مع صقر المخابرات المصرية «العتيد».
وقبل المقاربة مع المشير كانت مقاربات مع رجاله
بعد رحيل «مبارك» إلى شرم الشيخ بيوم أو يومين تلقيت مكالمة لمقابلة مجموعة من أعضاء المجلس العسكرى، كانوا خمسة من أعضاء المجلس، اللواءات محمد العصار، محمود حجازى، ممدوح شاهين، عتمان، عبدالفتاح السيسى.
وقد استقبلت بمودة من الجميع وقدم كل منهم نفسه ووضعه فى الجيش وأعطانى بطاقته وعليها أرقام التليفونات ثم أضاف عليها رقم الموبايل بخطه، أما اللواء السيسى فقد قدم مبتسماً بطاقة ذات لون مميز (بيج غامق قريب من اللون الذهبى) وقرأت عليها «لواء أ. ح. عبدالفتاح سعيد السيسى مدير المخابرات الحربية والاستطلاع» وفقط ولا أرقام تليفونات.
وفيما أتقارب مع القارئ بما تقاربت به معهم أعتذر مقدماً أننى لن أقول كل شىء، سأحكى ما دونت بعد الجلسة من نقاط متعجلة، ولكن سأمتنع عن ذكر معلومتين لأننى اعتدت ألا أثرثر بما سمعت من معلومات لا يحب أصحابها أن تقال، وفى البداية تلقيت ما قد يبدو تحية غير متوقعة من اللواء محمد العصار الذى قال: «كنت أقرأ مقالاتك فى مجلة الطليعة وأنا طالب فى الإعدادية»، وبدأت بأن أوجه التحية موجزة، فهم الآن أصحاب سلطان وقد يعتقدون أو لعلهم بدأوا يعانون من موجات نفاق، وحذرتهم أننى سأتكلم بصراحة ولن أجامل، وأكدت أننى لا أريد شيئاً ولن أقبل شيئاً وبدأت بانتقاد موقفهم من الإخوان فقد ترامت روائح تقارب معهم، وقلت لهم بيت شعر:
إذا جئت فابعث طرف عينك نحونا
لكى يعرفوا أن الهوى حيث تنظر
وحذرت من أن رائحة التقارب مع الإخوان ستنعكس على المناخ العام، كما أن هذا التقارب خطير لأن الإخوان لا عهد لهم ولا يحترمون وعداً ولا صداقة، ثم سألت: أنتم جميعاً لواءات لكن مَن الأقدم؟ فقال اللواء محمود حجازى: أنا، قلت أريد أن أستوضح منك بعض المواقف، فرد قائلاً: فى العسكرية عندما نتحدث مع مدنيين يبدأ الأحدث بالكلام لأن الأقدم إذا تكلم لا يجوز للأحدث منه أن ينتقده أو يشرح ما يقصده أمام المدنيين.. واللواء السيسى الأحدث وسيتكلم.
وأشهد أن اللواء السيسى قد تكلم بكفاءة وهدوء وبكلمات دقيقة لا تحتمل التأويل وشرح كل ما كان، ولست أريد أن أطيل فى تقييم كلماته لكيلا يتصور البعض أننى أتعمد الآن مديح من أصبح رئيساً، وأعود إلى حديث اللواء السيسى الذى امتد لساعات واستدرجنى أو بالدقة احتوانى دون أن أشعر بأقل قدر من الملل، فالمعلومات تتدفق بدقة محكمة ومرتبة.. وأذكر أن آخر معلومة أنهى بها كلامه أنه قال: «أنا أؤكد أن قيادة الجيش موحدة تماماً.. وقد عقدنا اجتماعاً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة دون أن نبلغ مبارك والمفترض أنه كان رسمياً لم يزل رئيساً للمجلس بصفته قائداً أعلى.. لكنه عرف أننا مجتمعون فحضر إلى الوزارة، وعرفنا أنه مقبل فانفضّ الاجتماع، والمشير استقبله وهو لم يفتح الموضوع ولا المشير فتحه، وقد استمر حديث اللواء السيسى عدة ساعات شرح فيها رؤية قيادة الجيش فيما كان قبل 25 يناير وفيما يجرى فى الميدان ورؤيتهم للمستقبل، وكان الفجر قد داهمنا والشرح كان وافياً.. وفيما أصافحهم طلب منى اللواء عتمان بعضاً من كتبى عن الإخوان، ثم تلى ذلك مطالبة الباقين ما عدا السيسى فحتى الكارت ليس عليه عنوان ولا تليفون وهو لم يطلب.. وأرسلت للآخرين الكتب وعندما التقينا مرة أخرى سألت اللواء عتمان هل قرأت فى الكتب؟ فقال بصراحة صادقة: لم أجد وقتاً، وأضاف: اسأل العصار هو اللى بيقرا كتير.
وفى ظهر اليوم التالى لهذا اللقاء اتصل بى اللواء العصار الذى واصل بعدها التواصل معى باسم القيادة، قال العصار بهدوء: كنت قاسياً أمس فى انتقاداتك، واكتفى واكتفيت، لكننى أجد لزاماً علىّ أن أشير إلى أن اللواء العصار أثبت دوماً سعة اطلاع ورؤية متعمقة وتفهماً جاداً لما يجرى فى ساحة الوطن وساحة السياسة وللاتجاهات والصراعات الفكرية فى مصر، وأن القادة الآخرين الحاضرين فى الاجتماع كانوا غاية فى التألق والموضوعية وكان هذا اللقاء مجرد مقدمة للقاءات أخرى.
ومقاربة مع الفريق
والفريق سامى عنان قائد عسكرى مختلف، فهو إذا أراد أن يتبدى بسيطاً وابن بلد.. فينادينى «يا بلديات» فالعائلة من قرية بجوار المنصورة وبيتها قريب من بيتنا فى حى الحسينية فى المنصورة، وهكذا يبتدئ الفريق بالتباسط: بتروح المنصورة؟، شفت اللى حصل لبيتنا اتهد وراحت جنينته الجميلة وبنوا مكانه عمارة، اكتشفت أنه بسيط ومتباسط ثم يعود فى لحظة إلى سمته العسكرى المحافظ ويختفى التباسط، وفى أول لقاء تم بدون مناسبة وحضره عدد من رؤساء وممثلى الأحزاب «غير المتأسلمة» سواء كانت كبيرة أو صغيرة أو حتى صغيرة جداً أو مجرد لافتة، ولم أجد للاجتماع مذاقاً محدداً فهو بلا جدول أعمال وتركيبته بلا منطق وأحسست أنه اجتماع استكشافى، ثم اتضح أن الهدف هو استطلاع رأى الحاضرين فى الأحجية التى فرضها الإخوان على الجميع: الدستور أولاً، أم الانتخابات؟ ونحن ومعنا كثير من الأحزاب كنا قد اتفقنا على أن الدستور أولاً، لكن المفاجأة كانت موقف الدكتور نور فرحات الذى قصم ظهر المناقشة باقتراح سريع ومفاجئ، قال فيه: «أنا ممكن أوافق على إجراء الانتخابات أولاً بشرط وضع وثيقة فوق دستورية تحدد التوجهات العامة لحماية الديمقراطية وتضع الأسس الضرورية لإرساء قواعد الدولة المدنية»، (ولست أعرف إذا كان الأمر مرتباً مع د. نور أو مع حزبه آنذاك «الديمقراطى الاجتماعى» أم لا)، المهم أن الفريق تلقف الاقتراح بموافقة فورية والتفت إلى أسامة الغزالى قائلاً: جهز لنا بسرعة يا دكتور أسامة مشروع للوثيقة وكلمنى بكرة علشان ندرسه، وهكذا أجهض الاجتماع منذ اللحظة الأولى ولم يعد له أى مذاق، وقررت أنا ألا أعترض علناً على د. نور فحزبه حليف لنا، (وجدير بالذكر أننى سألت أكثر مرة الدكتور أسامة فيجيبنى بابتسامة ساخرة طلبت الفريق وسكرتيره ومكتبه عشرات المرات ولم يرد علىّ أحد)، لكن الاجتماع فيما بعد كشف عما يستحق التعرف على أسلوب الفريق، فقد طلب رئيس حزب صغير جداً الكلمة وبدأ بالنفاق المعتاد، ثم ازداد نفاقاً فقال فى معرض كلامه عبارة «الرئيس المخلوع» وهنا انتفض الفريق وبصوت صارخ «مخلوع إيه يا أستاذ؟ الرئيس تنحى بقرار منه ولازم يفهم الجميع كده كويس»، وحاول المسكين أن يتراجع قائلاً «أقصد…»، فصدمه الفريق «ماتقصدش.. اسكت» فحاول أن يتأسف أو حتى يتوسل فإذا بالفريق يأمر «لما أقول اسكت تبقى تسكت» وسكت المسكين، ولم يعجبنى هذا الأسلوب لدرجة أننى فكرت فى الانسحاب، ولكن آثرت أن أنتظر لعلى أرى من الفريق أسلوباً آخر فى التعامل، وإن كان الفريق قد قدم لى فرصة سانحة لم أكن أتوقعها، فقد طلب الكلمة ممثل حزب الكرامة الأستاذ أمين إسكندر (وهو كما يعرف الناس واحد من خمسة تفاوض فيما بعد بهم ومن أجلهم الأستاذ حمدين صباحى ليشاركوا جماعة الإخوان فى الانتخابات فى قائمة الإسلام هو الحل)، وكانت الصفقة مثيرة للدهشة والقرف فى آن واحد فقد دخل الخمسة إلى البرلمان كأسرى حرب فى إطار ذليل يدفع المسيحى أمين إسكندر لرفع شعار «الإسلام هو الحل» وصاحب الصوت المرتفع جداً والزاعم جداً أنه الممثل رقم واحد للناصرية الأستاذ كمال أبوعيطة الذى أصبح فيما بعد وزيراً، وبدأ الأستاذ أمين إسكندر أنشودة ناصرية الكلمات، فردد فى خطاب خارج الموضوع تماماً مفردات ناصرية مشهورة مثل «جماهير الشعب المعلم» وأقول بكل الصدق إن شعبنا العربى الذى لا ينسى قوميته، وفجأة وفيما يتجلى الخطيب ويرتفع صوته إلى ما فوق المعتاد فى خطبة منبرية بعيدة عن أى موضوع إلا الإعلان عن ناصرية الخطيب، فقال الفريق «استنى يا ابنى شوية» فتوقف الخطيب مرغماً، فتوجه الفريق نحوى قائلاً: يا دكتور رفعت أنا افتكرت موضوع كنت دايماً عايز أسألك عنه.. وأنساه، هل صحيح كانوا بيعذبوك فى السجن؟ وسادت الدهشة الجميع وأنا أقول «صحيح»، وسأل الفريق: إزاى يعنى؟ ولا أخفى أننى كنت أكثر قرفاً من هذا الذى يخطب كأحد أبطال الناصرية، بينما كان وزملاؤه تفوح منهم رائحة السعى نحو تحالف مع الإخوان أعدى أعداء الناصرية، فانطلقت لأقدم نماذج متوحشة من تعذيب نازى النكهة تعرضت له شخصياً ومعى أكثر السجناء، وكان الوصف موجعاً وصادماً ومنح الحاضرين دهشة مشحونة بالقرف.. وبعد أن اكتفى الفريق والحاضرون توقفت، والتفت الفريق الماكر إلى الأستاذ أمين إسكندر الذى كان قد فقد كل قدرة على القول أى قول، وقال له «كمل كلامك يا ابنى» ولم ينطق.
وبما أن الاجتماع قد تم إجهاضه تماماً سواء باقتراح د. نور فرحات أو بتصرفات الفريق عنان أو بخطاب أمين إسكندر ثم بحديثى الملىء بالشجن، فقد قررت أن أنهيه بلدغة ولو فى موضوع غير مطروح.. وسألت: «سيادة الفريق إيه أخبار قانون دور العبادة الموحد؟»، (وكنت قد سمعت أن الذى أعده المستشار طارق البشرى)، فقال: المشروع موجود، فقلت: هذا المشروع تم إعداده بدهاء ومكر شديدين، فسأل الفريق مندهشاً «إزاى يعنى؟» فأجبت: لقد تمت صياغة القانون بحيث يرفضه المسلمون جميعاً ويرفضه الأقباط جميعاً، وبهذا يبقى الحال على ما هو عليه، وابتسم الفريق قائلاً: «ما انت ناصح أهو».
ويتبقى فى هذه المقاربة عبارة أخيرة..
فقد ظل الفريق الذى رافق فيما بعد سيادة المشير فى جلساته العديدة التى سنتحدث عنها، حريصاً على الانفراد بى فى فترات الاستراحة من الجلسات الطويلة، وكثيراً ما كان يشكو من ثقل حمل المسئولية، فمصر بلد كبير ومشاكله معقدة وسيادة المشير عايز يمشى وكثيرون فى دول العالم يؤكدون لنا لا دعم ولا مساندة ولا مساعدات إلا إذا انتهى الحكم العسكرى وعلشان كده عايزين نخلص بسرعة لتجرى انتخابات بسرعة.. فسألته: «كل شوية تقولوا عايزين نمشى.. فماذا لو حكم الإخوان وزعطوكم؟» (هذه هى الكلمة التى استخدمتها فى إطار حالة التباسط بيننا) فأجاب على الفور وبحسم قاطع: «نقطع رقبتهم هو لعب عيال؟».