لا حياة بدون أمل.. ولا إيمان بدون رجاء
“كونوا في الرجاء فرحين وفي الشدّة صابرين وعلى الصلاة مواظبين” (رومية 12:12). كان بعض النُسّاك في القرن الثالث الميلادي يقضون الليل وهم وقوف على أرجلهم، في حالة انتظار، حتى أنهم كانوا كالأشجار الباسقة وأيديهم مرفوعة للسماء، وعيونهم شاخصة نحو الأفق حيث شروق الشمس في الصباح، وكانت رغبتهم طوال الليل حلول النهار، لذلك كانوا في وضع انتظار وهذه هي صلاتهم. لم تكن لديهم كلمات ولكن جسدهم تحوّل إلى كلمات. وعندما كان يصل شعاع الشمس إلى كفوفهم، يبدأون في وضع الاستراحة لأن الشمس أشرقت (من تأليف Certeau de Michel).
نستشف من هذه الأمثولة معنى الانتظار الهادف والسهر، فنجد أولاً معنى الرجاء الحقيقي والذي يختلف تماماً عن النُعاس والكسل والسطحية والانغلاق الروحي؛ ونلاحظ بُعد الألم والالتزام حيث يقفون باستقامةٍ طوال الليل بالرغم من البرد والتعب، فهو تدريب على السمو والإرادة والتطهير؛ كما أننا نستنتج بُعداً ثالثاً وهو لحظة السعادة عندما يصل الشعاع الأول للشمس إلى أطراف أيديهم الممتدة للصلاة. كل هذا نستمدّه من إيماننا بالله عندما نشعر بنوره الذي يحتوينا ويضيء لنا ويمنحنا الدفء.
ويلخّص لنا الفيلسوف Ernst Bloch حالة الارتباك التي يمر بها الناس قائلاً: “مَن نحن؟ مِن أين أتينا؟ إلى أين نذهب؟ ما الذي ننتظره؟ ماذا ينتظرنا؟ كثيرون هم الذين يعيشون في حالة ارتباك. فكل ما هو أرضي متذبذب، حتى أنهم لا يعرفون لماذا ولأي شيء. وصلوا لحالة من الألم حتى أنها تحوّلت إلى خوفٍ ممنهج…والحل هو أننا في حاجةٍ للأمل”.
إذاً ينتقل الفيلسوف من الواقع الذي نعيشه ويرى الحل الوحيد له الأمل الذي سيصبح ترياقاً ضد الخوف واليأس. لأنه مادامت هناك حياة، لابد أن يكون الأمل، ونستطيع أن نقول: “مادام هناك إيمان، سنجد الرجاء والأمل”. كما أن الكاتب الألماني Hermann Hesse يجد الحل في الإتحاد والتعاون مع الغير لأننا لا نحيا لأنفسنا، ويقول: “أتمنى من الحياة أن تجعلني أستمتع بالمعرفة وأستريح في يد الله كالعصفور، وعندما أستطيع هذا، سأحكي للآخرين خبرة حياتي ومعرفتي، كما أنني لا أطمع في شيء إلا أن أنتصر على الخوف والموت، ولن أتمكّن من هذا إلا إذا شعرتُ بأن حياتي ليست ملكاً لي فقط، ولكنها من أجل الآخرين، وبناءً على ذلك ستكون كل لحظة فيها لها معنى”.
هنا يريد أن يضع كل ثقته في الله ويعتبر حياته ليست ملكيّة خاصة، ولكن يجب عليه أن يتقاسمها مع الغير، وستكون النتيجة أنه بالرجاء والإيمان سيتخطّى مرحلة الخوف والموت. ونستمع لكلمات داود النبي عندما يضع رجاءه في الله مردداً: “غير أنني جعلتُ نفسي في طمأنينة وأُنسٍ كفطيم على صدر أمه، أصبحتُ في قرارةِ نفسي” (مزمور 2:131).
مما لا شك فيه أن المؤمن الحقيقي كالطفل المرتبط بأمّه في علاقة حُب وحنان، تحيطها الطمأنينة والسكينة، وهذا الشعور نلاحظه بين جميع المؤمنين في مختلف الديانات والأزمنة والأماكن لأنهم وضعوا نُصب أعينهم الأمل والرجاء في الله. لأن مع نهاية الليل ليس هناك ليلاً ولكن فجراً، وعند نهاية اليأس ليس هناك يأساً بل أملاً، لأن الليل يُزهَر في النهار، واليأس ينبت منه الأمل. كل هذا لن يتحقق إلا بالإيمان في الله وقدرته العظيمة التي تنتشلنا من ظلام الليل وبئر اليأس. لذلك يجب علينا أن نصلّي من أجل هؤلاء الذين يعيشون بلا أمل ولا رجاء كما لو أنهم يطرقون على باب القبر في انتظار مَن يستجيب لهم ويفتح.
أمام تساؤلات العديد من البشر عندما يشعرون بأن الحياة عبئاً ثقيلاً لا يُحتمل، وأمام فقدان أعز الناس فجأةً، ومئات الكوارث التي تدفعنا إلى اليأس، نستطيع أن نستخرج أملاً جديداً من قلب الأحداث، ونتحلى بالرجاء عندما نضع ثقتنا في الله القادر على كل شيء، كما يجب ألا نحزن على يومٍ انقضى، فسيكون الغد مُشرقاً أكثر مادمنا نمتلك قلباً شجاعاً وإيماناً مستقيماً ونجد مَنْ نُحبّه ومَنْ يحبّنا. مما لا شك فيه أن التحلّي بالأمل والرجاء ليس من السهل، فكم من الأشخاص الذين يستسلمون لليأس حتى أن حياتهم تنطفىء وتُصبح بلا ثمر؟ إذاً يجب أن نمنح حياتنا روح الشباب والنضارة، لأن كل شيء له نهاية ولن يدوم أبداً مهما كانت صعوبته وشدّته، لأن الله لن يتخلّى عن مساعدتنا. ونختم بالقول المأثور: “إن أكثر ساعات الليل ظلمة هي التي تسبق الفجر مباشرة”.