الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

في الذكرى السادسة لرحيل فاتن حمامة.. ننشر فصلًا عنها من كتاب "السينما المصرية 50 عامًا من الفرجة" للروائي ناصر عراق

القاهرة 24
ثقافة
السبت 16/يناير/2021 - 09:58 ص

تحل غدًا 17 يناير الذكرى السادسة لرحيل سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وبهذه المناسبة ننشر فصلًا من كتاب  (السينما المصرية... 50 عامًا من الفرجة)  للروائي والناقد الفني ناصر عراق، الصادر عن دار (كُتّاب) للنشر بدبي عام 2018، حيث يتناول هذا الفصل القيمة الفنية لفاتن  حمامة ومسيرتها الطويلة، وجاء الفصل كالتالي:

 

فاتن حمامة.. سيدة الفن الأنيق

 * اكتشفها شيخ المخرجين محمد كريم ووصفها بأنها طفلة السينما الأولى في العالم.. لو!

إنها الطفلة المدهشة والصبية الرقيقة والفتاة الحالمة والزوجة العاشقة والأم المكافحة والسيدة الغيور على مجتمعها. إنها باقة ورد في صدر كل مصري يحلم بالخير والعدل والجمال. إنها أعجوبة عصر وفلتة زمن. إنها رمز لقيم وأيقونة محبة.

مع فاتن حمامة أنت في معبد المسرات الراقية.. مع فاتن حمامة أنت في حضرة البساتين المترعة بالفن الآسر والحدائق العامرة بالمشاعر الفياضة.

في يوم 27 مايو عام 1931 كانت أم الدنيا على موعد مع العظمة والمجد.. على موعد مع ميلاد طفلة سيكون لها أكبر الأثر في تشكيل ذائقة المصريين ووجدانهم، إذ ولدت في هذا اليوم السيدة فاتن، فأشرقت الشاشة بنور إبداعها، وعلم الناس أن عباقرة مصر في ازدياد.

ما رأيك لو نحاول أن نطل على ما تيسر من سيرة هذه الفنانة المتفردة التي عكست أفلامها حال مصر في عصور مختلفة وأزمنة متنوعة، وذلك بمناسبة مرور ستة أعوام على رحيلها (غابت عنا في 17 يناير 2015).

يوم سعيد

أظنك تعرف كيف ظهرت فاتن حمامة على شاشة السينما للمرة الأولى حين اختارها محمد كريم (1896/ 1972) مخرج أفلام عبد الوهاب، لتشارك بدور صغير في فيلم (يوم سعيد/ عرض في 15 يناير 1940)، وكان كريم قد نشر إعلانا في الصحف عن حاجته إلى طفلة صغيرة، فأرسل والد فاتن صورتين لابنته - ونِعمَ ما فعل - فلفتت براءتها في الصورة انتباه المخرج الذي بهر بذكائها ورقتها حين استدعاها لمقابلته، وكان أن أعاد كتابة السيناريو ليزيد من حجم دور الطفلة (أنيسة) في الفيلم.

طالع معي ما كتبه محمد كريم في مذكراته التي نشرتها أكاديمية الفنون وحققها محمود علي.. يقول كريم بالحرف: "في مكتب فيلم عبد الوهاب – كان في شارع الموسكي - رأيت فاتن حمامة الطفلة. من النظرة الأولى قررت صلاحيتها للدور بنسبة 50%، ومن النظرة الأولى أيضا أعجبت بالطفلة وجلست أتحدث معها ساعات، فأيقنت أنها لا تصلح للدور 100% فحسب، بل أيقنت أنها أكبر من الدور الذي رشحتها له، ورجعت إلى السيناريو وبدأت أبذل مجهودًا كبيرًا لتكبير دور أنيسة في كل جزء من أجزائه".

ثم يضيف كريم بحسرة: "لو عهدنا بفاتن إلى المدرسين والمدربين في الموسيقى والرقص وغيرها من الفنون التي كانت "شيرلي تمبل" – أشهر طفلة في السينما آنذاك – تدرسها في هوليود لكانت طفلة السينما الأولى في العالم.. لقد كان نبوغها منقطع النظير، وكانت إلى جانب ذلك عملاقة في طاقتها البشرية التي فاقت الحدود.. كانت تعمل من 6 مساءً إلى 6 صباحًا دون أن يبدو عليها التعب، وكان بعض من لا هم لهم إلا الكلام عن الناس يقولون: "مش معقول.. دي عمرها 12 سنة على الأقل لكن مش باين عليها"، وهذا قطعًا كلام كله حقد وافتراء، فإن فاتن حمامة يقينا كان عمرها في ذلك الوقت سبع سنوات وبضعة شهور".

ثم يواصل كريم في مذكراته افتتانه بالطفلة فاتن، فيقول: "في فترات الاستراحة – أثناء تصوير يوم سعيد - كنت أمسك بها بين ذراعي وأطلب منها أن تعبر بوجهها عن بعض العواطف والمشاعر، مثلا كنت أقول لها متغاظة مني فتعبر فاتن تعبير الغيظ.. زعلانة فتعبر تعبير الغضب.. مبسوطة فتنفرج أساريرها عن بسمة كلها مرح وفرح.. بتفكري فتغرق في تفكير عميق.. بتحبيني.. إلخ. وكانت موفقة في كل التعبيرات التي طلبتها منها إلى أن قلت لها..احتقريني.. فقالت احتقرك يعني إيه يا أونكل؟ فقلت لها.. إخص عليكي يا فتون ما تعرفيش احتقار يعني إيه.. امال بتروحي المدرسة إزاي؟ قالت أصل احنا لسه ما خدناش خط الرقعة.. ما عرفش غير نسخ!".

أرأيت كيف تمتعت الطفلة فاتن بموهبة خارقة وحضور طاغٍ؟

بنت الناس المظلومة!

لعل أبرز ما يميز أفلام فاتن بعد انتقالها من طور الطفولة والمراهقة – قدمت نحو 10 أفلام في تلك السن – إلى مرحلة النضج أنها اتكأت على تجسيد شخصية الفتاة المظلومة التي تتعرض لاضطهاد المجتمع أو خبث المصادفات، وكانت السينما المصرية قد أفرطت في تقديم الأعمال الميلودرامية الزاعقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأهوالها وما تبعها من غلاء في الأسعار، حتى يحمد المشاهد ربه ويرضى بوضعه المزري حين يرى الدموع تنهمر على الشاشة من الفواجع التي يتعرض لها الأبطال، وكانت فاتن حمامة نموذجا ناصعًا لتجسيد دور البنت الضحية – ضحية مجتمع أو مصادفات أو قدر – فهي تملك جسدًا نحيفا يوحي بالضعف أمام المصائب والملمات، أما ملامح وجهها فتختلط فيه الطيبة بالبراءة، فضلا عن مهارتها في فنون التقمص، لذا كانت خير مثال للقيام بأدوار البطولة في أفلام تضج بأحزان ومواجع لا نهاية لها مثل (اليتمتين/ العقاب/ خلود 1948/ ست البيت/ كل بيت وله راجل/ بيومي أفندي 1949/ ظلموني الناس/ بابا أمين/ أخلاق للبيع 1950/ أنا الماضي/ وداعًا يا غرامي/ أنا بنت ناس/ ابن النيل/ أشكي لمين/ أسرار الناس 1951/ الأستاذة فاطمة/ المهرج الكبير/ سلوا قلبي/ زمن العجايب/ كأس العذاب/ الزهور الفاتنة/ المنزل رقم 13/ أموال اليتامى/ لحن الخلود 1952/ عائشة/ عبيد المال/ حب في الظلام/ موعد مع الحياة/ 1953/ قلوب الناس/ آثار في الرمال/ الملاك الظالم/ دايمًا معاك/ ارحم دموعي/ موعد مع السعادة 1954).

هذه عينة من الأفلام المهمة التي قدمتها فاتن حمامة خلال ست سنوات فقط والتي تعرض بانتظام على شاشات الفضائيات حتى الآن، ولعلك لاحظت أنها جميعًا تحتشد بقصص حزينة وفواجع وكوارث، وقد تفوقت فيها كلها فاتن بأدائها السهل وصوتها المحبب.

يكتشف الناقد الكبير كمال رمزي بذكاء سر عبقرية فاتن في فنون التمثيل، فيفرد لها فصلا كاملا في كتابه "نجوم السينما العربية"، حيث يقول عن سيدة الشاشة: "فاتن حمامة في كثير من أفلامها تمثل وكأنها لا تمثل، تعتمد على حساسية داخلية مرهفة، ومعايشة عميقة للحظات الانفعال. تعبر عنها على نحو سلس بالغ النعومة من خلال ملامح وجهها الدقيق القسمات بجماله الهادئ القريب إلى النفس المميز بعينين واسعتين، معبرتين تجعلانك تطل من خلالهما على عوالم رحبة من مشاعر متباينة.. متداخلة ومتعددة الألوان والدرجات: الخوف.. الحب.. الألم.. السعادة.. القلق.. اليأس.. الشك.. الطمأنينة.. التحدي.. الهزيمة.. والنصر".

فاتن وثورة يوليو

عندما استقر نظام ثورة يوليو 1952 تغيرت أمور كثيرة في الواقع المصري وفي القلب منه السينما بطبيعة الحال، فجمال عبدالناصر زعيم وطني انحاز لفقراء هذا البلد وفتح الباب واسعًا لانتشار التعليم المجاني ووفر الثقافة بمبالغ زهيدة لملايين الناس، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الذائقة الفنية لدى الشعب، فبات من الصعب القبول بأفلام تقرع طبول الكوارث والفواجع دون مبرر منطقي، أو تكتفي بصب اللعنات على الظالمين، وإنما رأينا أفلامًا تفضح الخلل الاجتماعي الذي ينتج عنه الظلم أو الغبن.

لم تغب فاتن حمامة عن (الموجة الجديدة) في السينما إذا جاز التعبير، ووفرت لها مواهبها اللا محدودة فرصًا واسعة لتمثيل أدوار تنهض على مقاومة الظلم المحلي أو الأجنبي (صراع في الوادي 1954 ليوسف شاهين)، أو (الله معنا 1955 لأحمد بدرخان)، أو (دعاء الكروان 1959 لبركات)، أو (لا وقت للحب 1963 لصلاح أبو سيف)، أو (الحرام 1965 لبركات) على سبيل المثال.

المدهش أن فاتن امتلكت براعة عجيبة في التنقل بين الطبقات بيسر ودون تكلفة، فمرة نراها فقيرة (القلب له أحكام 1955/ دعاء الكروان/ الحرام)، ومرة فتاة من عائلة بالغة الثراء (صراع في الوادي/ الله معنا)، وثالثة ابنة الطبقة المتوسطة المكافحة (سيدة القصر 1958/ لا وقت للحب)، وفي كل الحالات لا يمكن لك إلا أن تصدق التفاتتها أو همساتها أو رعشاتها سواء كانت في قصر أو حارة أو حقل! حتى في الفيلم الوحيد الذي تقمصت فيه شخصية فتاة شريرة (لا أنام/ 1956) تمكنت فاتن من إقناعنا أنها كتلة من المكائد تمشي على قدمين.

فاتن والسادت ومبارك

لا يمكن لنا معرفة الموقف السياسي الحقيقي للفنان من خلال تصريحاته العلنية في الصحف واللقاءات التلفزيونية لأنها مرهونة غالبًا بمجاملات وتوازنات، لكن الأعمال الإبداعية هي التي توضح بجلاء الموقف السياسي الاجتماعي الحقيقي للفنان، وفاتن حمامة قدمت في عهدي السادات ومبارك أفلامًا مهمة تدين الظلم الواقع على الشعب من قبل هذين النظامين، وأحيلك سريعًا إلى (أريد حلا للمخرج سعيد مرزوق 1975/ أفواه وأرانب لبركات 1977)، (ليلة القبض على فاطمة لبركات 1984) (يوم مر ويوم حلو لخيري بشارة 1988)، ثم مسلسلها البديع (ضمير أبلة حكمت) مع مطلع التسعينيات.

في هذه الأفلام فضحت فاتن حمامة بؤس نظامي السادات ومبارك بحصافة وفن، فانحازت لحقوق الفقراء وانتصرت للمرأة المقهورة وتصدت للظلم وقاومت البطش.. بطش الرجل المتجبر أو بطش السلطات الجائرة، وقد تفوقت فيها جميعًا حتى صرنا لا نشبع من إبداعات هذه السيدة الفاضلة.

أذكر أنني رأيت فاتن حمامة مرة واحدة في مجمع الفنون بالزمالك عام 1986. كانت مدعوة لافتتاح معرض لأحد الفنانين التشكيليين الذي صنع لها تمثالا نصفيًا. ذهبت إلى هناك، لألتقي السيدة الأنيقة، ولأحرر موضوعًا عن المعرض في صحيفة (صوت الشعب) على ما أذكر، وقد تفاجأنا بأن التمثال لم يكن موفقا، فقد حُرمَ من رقة فاتن، فبدت ملامحها خشنة حادة لا تسيل منه البساطة المحببة. وتجرأت إحدى زميلاتنا الصحفيات وسألت بطلة (حتى نلتقي): (ما رأيك يا مدام فاتن في التمثال؟)، فغمرنا كلنا صمت، وتحيرنا، كيف ستكون إجابة السيدة الأولى؟ فإذا امتدحت التمثال ستغدو منافقة بشكل بائس، وإذا اتنقدته ستبدو غير فطنة لا تعرف الأصول، فالفنان يقف بجوارها مباشرة.

وأفلتت فاتن بذكائها من ورطة السؤال، وقالت بهدوء وابتسامة لطيفة تزين وجهها: (هذا تمثال خاص بي، فلا يمكن أن أعلن موقفي، أنتم من أنتظر رأيكم... أخبروني ما رأيكم؟)، ولم يتطوع أحد بالإجابة، فالموقف محرج، وليس من السهل إغضاب فاتن فنحن لا نراها رأي العين كل يوم، ولا كل سنة!.

وأذكر أيضا أن فاتن حمامة قالت عن الموسيقار الأعظم محمد عبد الوهاب فور رحيله: "إن عبد الوهاب أسطورة ونحن فخورون لأننا عشنا زمن هذه الأسطورة"، وأستطيع أن أجزم أنك يا سيدتي أسطورة أيضا ونحن فخورون لأنك معنا.

 

تابع مواقعنا