في ذكرى رحيلها.. كيف وفَّقت أم كلثوم بين الفن والسياسة؟
لم تكن أم كلثوم التي تحل اليوم ذكرى رحيلها عام 1975 مجرد فنانة عادية مرت بمصر، كانت وتظل أيقونة جعلت فنها في خدمة وطنها فكانت مثالا يحتذى به في مواقفها الوطنية، وفي كتاب "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" للكاتب الكبير الراحل محمود عوض يتعرض لحياة أم كلثوم بين الفن والسياسية تحت فصل بعنوان "أم كلثوم بين الفن والسياسة" ومما جاء فيه:
لكي نحب بلدنا .. يجب أولا أن تحبنا بلدنا : حب بغير اللي تحب شروط . بغیر تحفظات . تماما كحب الأم الطفلها : أن الأم لا تحب طفلها عندما يكون هادئا ، وتكرهه عندما يكون شقيا لأ تطعيه عندما يطيعها ، وتجيعه عندما يخالفها .
لا .. الأم تحب طفلها في كل لحظة ، كل ساعة : كل سن. إنها تحبه - ليس لأنه حقق لها رغباتها - ولكن لمجرد أنه طفلها.. هذا يكفي . إنها لا تستغل حاجته إليها.. لا تستغل سلطتها عليه إنها لا ترهبه.. لا تخيفه، ولكنها تغريه.. تشجعه.. تدفعه، إنها تقدم له حبها بغير ثمن: وبدون مقابل.. بلا تعويض.. إنها تعطيه حبها خالصا.. على بياض.
لقد أعطت بلدنا - أمنا - حبها لأم كلثوم على بياض.. بلا تحفظات.. هذا واحد من الأمثلة القليلة النادرة في حياتنا العامة واستثناء.. لقد تصرفت الأم هنا بحكمة: أحبت طفلتها بلا حدود، فكانت النتيجة أن الطفلة أحبت أمها، والفنانة أحبته جمهورها . وأم كلثوم احبت بلدها .. حبا بغير حدود.
وخلال سنتين اثنتين دارت أم کلثوم حول الكرة الأرضية مرتين! من باريس الى المغرب. من تونس الى لبنان. من السودان إلى ليبيا. من الكويت إلى طنطا. من المنصورة الى دمنهور. من الإسكندرية إلى القاهرة.
وفي كل مرة كانت أم كلثوم تعود إلى القاهرة كانت تعود بمبلغ ضخم في يدها، وحب ضخم في قلبها. لقد غنى صوتها بعد نكسة يونيو 1967 غني صوتها .. وجمعت يدها الحصيلة .
الحصيلة هي مليونان من الجنيهات قدمتهما أم كلثوم لبلدها في سنتين ۰ تبرع اختیاری : مساهمة عاجلة : تبرع من الجمهور الى فنانته . ومساهمة من الفنانة لبلدها .
ولكن حب ام كلثوم لبلدها اهم من تبرع جمهورها لها. العاطفة هنا أهم من النقود، القدوة أهم من المال.
إن مصر أحبت أم كلثوم بغير حدود، فاحبتها أم كلثوم بغیر حدود. عرفان بالجميل.. تقدير لعواطف متراكمة وفاء لحب سابق.
انك سوف تلمس مظاهر ه ذا الوفاء دائما في كل حديث الأم كلثوم: عندما يهتف لها الجمهور في المغرب مثلا فهي تقول : "... كل هذا الحب لمصر : كل هذا الهتاف من اجل مصر ۰۰ وليس من اجلی"۰
قبلها تقول في باريس: "إنا مجرد مواطنة مصرية . لم أعمل شيئا أستحق عليه كل هذا النجاح أن بلدى هي صاحبة الفضل الأول في نجاحي، هكذا تقول أم كلثوم في باريس.. في السودان في الكويت .. في ليبيا ..'في لبنان، في كل
بلد خارج الحدود تعبر أم كلثوم عن وفائها للحب الذي تلقته داخل الحدود في كل عاصمة تعلن أنها عظيمة لأن شعبها عظیم • ساحرة لأن بلدها ساحر . تكافح بصوتها لأن بلدها يكافح بسلاحه.
عند هذه النقطة - هذه النقطة بالضبط - انتقلت أم كلثوم إلى قمة أخرى: قمة ثانية، من قمة الغناء إلى قمة الوطنية: من قمتها كمغنية، إلى قمتها كفرد عادی تصور۰۰! الفرد العادي يستطيع هو الآخر أن يكون قمة في سلوكه، في عمله، في تصرفاته، في مساهمته لبلده.
لقد فعلت أم كلثوم ذلك في المرحلة التي لم نعد نحتاج فيها إلى اثبات شيء جديد . إنها تغني، وهي قمة حينما تغني. إنها فنانة، وهي قمة في فنها.. هذا يكفي. لا .. هذا لا يكفي.. كما أثبتت أم كلثوم. لقد تاكدت قيمتها كفنانة.
بقي أن تتاكد قيمتها كفرد عادي، هذا ضروري في فترة سوف يكون الفرد العادي هو بطلها. فترة بدأت بعد نكسة يونيو 1967 ففي صراع مرير لتصحيح الهزيمة أمام إسرائيل سنة 1967 ، سوف يكون الفرد العادي هو دائما البطل : هو القدوة هو النموذج. إنه - بعمله، بإجادته لعمله، بقدوته في سلوكه - سوف يحسم في النهاية معركة طويلة ، ويسوي حسابا مفتوحا، مع إسرائيل.
هنا بالضبط بدأت أم كلثوم تضرب المثل في سلوكها كفرد عادی لقد تراجع الفنان هنا إلى الخلف وافسح مكانه للفرد العادي. تراجع صوتها إلى مجرد وسيلة نحو هدف أكبر. تعبئة العواطف بالتضحية، وتعبئة الخزائن بالنقود، وتعبئة البنادق بالرصاص.
هنا بالضبط بدأت شخصية أم كلثوم تنمو في اتجاه جدید، بدات تنمو في السن التي يتكور فيها الجسم ويتجمد الوجه وتتساقط الأسنان وتنطفئ الذاكرة. هنا تعود أم كلثوم شابة من جديد ..
في السن التي تتدهور فيها الصحة، وينكمش العقل، وتضعف الرؤية، وتتناقل الخطوات. بدات أم كلثوم تسرع خطواتها الى هدف جديد.
في السن التي يتحول فيها الماضي إلى حاضر، السن التي يبدأ فيها الإنسان يجتر ماضيه، يبدأ في الحياة على سمعة ماضيه بدأت أم كلثوم تعيش على سمعة حاضرها، وسعة مستقبلها.
في هذه المرحلة، هذه السن، هذه الظروف، بدأت أم كلثوم تصعد من جديد إلى قمة جديدة. قمة خالية.
في هذه المرحلة ، هذه الأيام ، بدا الجزء الفني في شخصية أم كلثوم يتراجع إلى الخلف، مفسحا مكانه للجزء الأساسي في شخصيتها، الجزء الوطني.
من الآن فصاعدا سوف تصبح مواطنة أولا، وفنانة بعد ذلك، المواطنة تقرر ، والفنانة تنفذ القرار .
من الآن فصاعدا سوف تغني أم كلثوم، ولكن لصالح تبرعات إزالة آثار العدوان .. أو لصالح تعمیر مدن القناة .. أو لأي عمل يخفف عن بلدنا الام الهزيمة ويساهم في جهود النصر ..
من الآن فصاعدا سوف تحرص أم كلثوم على أن تكون مصرية بنسبة ۱۱۰٪ ، بعد أن أثبتت أنها فنانة بنسبة مائة في المائة. أتثبت بعملها ما غنته من قبل بصوتها: بني الحمى والوطن .. من منكمو يحبها مثلي أنا؟
من الآن فصاعدا لن تكون أم كلثوم مجرد فرد مجرد جسم مجرد انسان تأكل وتنام وتغني وتستريح البال .. لا. انها - من هذه الدقيقة - سوف تصبح مواطنة تفكر ، وتحمل الهموم وتجمع القرش فوق القرش لگی بصنع بلدها الرصاصة فوق الرصاصة.
من الآن فصاعدا سوف تجمع أم كلثوم كل قرش لكي تعطيه لبلدها. ألف جنيه، عشرة آلاف جنيه، مائة ألف، نصف مليون. مليون ، ۲ مليون جنيه ! هذا هو الرقم الذي وصلت إليه أخيرا. التبرعات والإيرادات التي جمعتها أم كلثوم خلال سنتين. تبرعات اختياريةز تبرعات قدمها الجمهور إلى بلده بوساطة أم كلثوم. قدمها خلال عشرين حفلة غنت له فيها أم كلثوم.
والسؤال الآن: لماذا ؟ لماذا كل هذا النجاح ؟ لماذا الآن .. لماذا بهذه السرعة .. بهذا الإقبال؟
إن جزءا من الإجابة سوف نجده في شخصية أم كلثوم نفسها، ولكن الإجابة الكاملة سوف تجدها في تفسير آخر
تفسير فني لعمل سیاسي قامت به أم كلثوم.
لقد أعطت أم کلثوم نموذجا لما يستطيع الفنان - والفنان فقط - أن يفعله لبلده. نموذجا شهده التاريخ من قبل مئات المرات .. وسوف يشهده مئات المرات.
ان الفنان هو - في الواقع - أكثر من يحب بلده من أبناء بلده. الفنان يستطيع أن يحب بلده في ساعة حبا لا يستطيعه غيره في سنة. الفنان- أديبا أو موسيقيا أو رساما أو كاتبا أو صحفيا أو مطربا- يستطيع أن يترجم لك الوطنية إلى أشياء بسيطة مفهومة. إلى هواء نقي تتنفسه ، وأرض حرة تعشقها. إن الجمهور عند الفنان سواء: الشاب والعجوز، المرأة والرجل، اليمينی واليساري، الرجعي والتقدمي. كل هذه التقسيمات تختفي من قاموس الفنان ليحل محلها تقسیم آخر مختلف: مواطنون يحبون بلدهم .. وأعداء يحتلون أرضهم ...
بهذا المعنى تتحول السياسة عند الفنان إلى شيء خال من التعقيد والفلسفة : السياسة هنا هي الدفاع عن الأرض: "دافع عن حياتك "عن سمائك : عن هوائك عن بلدك . دافع عن أرضك"
في هذه النقطة بقف الفنان في المقدمة. إنه ليس خلفنا، ليس بجانبنا، إنه أمامنا، لأن الفنان – كما يقول مکسیم جورکی - هو أكثر البشر التصاقا بالأرض.
لهذا السبب فإن الشخص عندما يصبح فنانا فإنه يتحول إلى نموذج. إلى رمز رمز لكل ما هو جميل وباق ومحبوب ومستمر في بلده.
ولقد دخلت شخصية أم كلثوم تحمل هذه البذور منذ فترة طويلة مضت. لقد دخلت إلى المسرح تغني مرة في شهر فبراير ولكنها قبل ان تغني فوجئت بضابط يستوقفها لبقدم اليها خطابا مغلقا، ما هذا الخطاب؟ ماذا بداخله؟ ورقة ؟ آه.. ما هو المكتوب في الورقة؟ مش معقول .. إنه رجاء يقدمه إليها ضباط وجنود الفرقة المصرية المسلحة التي يحاصرها الإسرائيليون في الفالوجة : نريد أن نسمع من في حفل الليلة الليلة المذاع بالراديو اغنية "غلبت اصالح في روحي". قطعة غنائية تحولت الى مهمة وطنية . لبلتها قطعت أم كلثوم وصلتها الأولى لتقدم الاغنية المطلوبة كما لم تغنها من قبل .
وفي حرب 1901 كانت القنابل تتساقط على محطات إرسال الاذاعة، والأنوار مطفأة داخل استوديوهات الإذاعة نفسها ، ولكن أم كلثوم دخلت الاستوديو لتحفظ أغانيها للمعركة وتسجلها على ضوء الشموع "
وبعد نكسة يونيو 1997 لم تنتظر أم كلثوم الدعوة من أحد لكي تؤدي دورها - واجبها - كمواطنة ، كفرد عادی . لقد بادرت بالدعوة الى اقامة تجمع وطني للمراة المصرية .. تجمع يساهم بای مجهود لترميم - ثم تعبئة - المشاعر الوطنية للمرأة المصرية بعدها قامت الحملة لجمع تبرعات المواطنين ، الذهب ، الأموال الهدايا ۰۰ أي مبلغ ، أي هدية ، أی رمز ۰۰ يكفي للتعبير عن مساهمتك لبلدك .. دور بدأته أم كلثوم مبكرا بعد النكسة. مازال الدور مستمرا ..
وفي كل الأحيان كان المعنى أكبر من المبالغ المتجمعة، الرمز أكبر من المال: خذ مثلا تلك العروس التي ذهبت لتحضر حفل أم كلثوم "بمدينة المنصورة ( فبراير 1968. حفل أقامتة أم كلثوم لصالح تبرعات إزالة آثار العدوان .. إن العروس قدمت دبلة زواجها لكي يجري عليها مزاد في الحفل، وفي لحظات تسابق الجميع
على شراء الدبلة دون أن يسترد أحدهم الرقم الذي عرضه ونسخه أخر، أن الدبلة ثمنها جنيه، ولكنها بيعت بالفي جنيه.
وقبل أن تمضي خمس دقائق على هذا الرقم فكرت طفلة صغيرة كانت تحضر نفس الحفل ، لقد تقدمت الطفلة بحفنة من تراب المنصورة في كيس صغير من الحرير لكي يجري عليها المزاد بنفس الطريقة التي جرى بها على دبلة العروس، في لحظات بیعت حفنة التراب بثلاثة آلاف جنيه.. هذا ترابنا .. أرضنا.. نفديها بمالنا.. بحياتنا .. هذا هو المعنى الذي استطاع الفنان "استطاعت أم كلثوم - أن تحوله الى رمز ونموذج.
هذا هو الجانب الآخر في شخصية ام كلثوم ، الجانب الذي يجب أن ينتهي الي كل تقييم لأم كلثوم ، لقد تابعنا - طوال صفحات الكتاب - شخصية أم كلثوم من زوايا عديدة : أم كلثوم عندما تغنى عندما تختار ما تعنيه ، وعندما تستريح مما تغنيه أم كلثوم على المسرح.. وفي البيت .. مع المستمع. ومع الشاعر والملحن : ثم - الأن - أم كلثوم كشخصية وطنية ، كفرد عادی ۰۰
أنها جوانب مختلفة من حياة ام كلثوم وشخصيتها، إن الصفحات السابقة قامت بتفكيك ، شخصية أم كلثوم وحياتها • والصفحات القادمة ستحاول اعادة ربط شخصية أم كلثوم وحياتها من جديد.
إن ما يهم في حياة أم كلثوم ليست الطريقة التي ترويها بها . ولكن الطريقة التي عاشتها بها . أن ما تحتاج امرأة أخرى إلى اختراعه ۰۰ جربته هي .. ما تنسجة أخرى من الخيال ۰۰ مارسته هی ۰۰ ما تحلم بنصفه أی امرأة .. حصلت عليه أم كلثوم كاملا، إنها غنت كما لم يغن أحد، فاستمع إليها الجمهور كما لم يستمع لأحد، إن بلدها أحبها كما لم يحب أحدا فأحبت هي بلدها كما لم يحبه أحد، إنها باختصار- غنت وأحبت فاستمرت.. في سنوات لا يستمر فيها أحد! ..
إن السبب في هذا كله كان بسيطا بقدر ما كان صعبا : إنها استطاعت أن تخلص وتركز وتمثل مشاعر جمهور کامل على امتداد جيلين أو ثلاثة ، ظاهرة مالوفة في حياة كل شعب ، ففي اوقات معينة من التاريخ يستطيع شخص واحد - فنان واحد - ان يكون رمزا لذوق شعبه ومشاعره .
هذا ما فعلته أم كلثوم فعلته في القاهرة .. وفي الخرطوم فعلته في المغرب ، في الكويت ، في تونس ، لبنان ، ليبيا ، فعلته ..
حتى في هونج كونج ، حتى في كندا ! إن هونج كونج هي بلد الغرائب ، ولكن الغريب بالنسبة لي كان ما پلی • سيدة مصرية متزوجة : انها متزوجة من مدير فندق هيلتون بهونج كونج ۰۰ انها مقيمة هناك منذ أربع سنوات شقة انيقة في الدور الثالث من الفندق .
وقبل أن أغادر هونج كونج سالت السيدة المصرية مجاملا: - ألا تريدين أي شيء من مصر ؟ ردت السيدة بلهفة : أو ۰۰ أرجوك ! - ماذا؟
- أسطوانات: أسطوانات أم كلثوم - إن أحدث أسطوانة عندي هي: أنت الحب ، ۰ أريد أسطوانات كل الأغاني التالية لها : لا تنس: أرجوك لا تنس!.