مرصد الأزهر يكشف تداعيات الإرهاب في إفريقيا خلال جائحة كورونا
عانت بعض الشعوب الإفريقية كثيرًا؛ جرّاء ما خلَّفه الإرهاب الغاشم بجماعاته وأفكاره وأيديولوجياته، فلقد كان ولا يزال خطرًا يهدد المجتمعات، وأصبح من القضايا التي تمثل تهديدًا للسِّلم في مختلف المجالات في المجتمع، ويتسبب في زعزعة الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، وتفجير الصراعات التي من شأنها إعاقة تقدم المجتمعات، في شتى الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فخلال العام 2020، وعقب الهزيمة الكبيرة التي تلقاها تنظيم "داعش" الإرهابي من خلال مقتل "أبو بكر البغدادي" في أكتوبر 2019 وغيرها من الأحداث، استغل التنظيم الإرهابي ظهور جائحة "كورونا" في محاولة للعودة من جديد؛ مستغلًا تفشي هذا الوباء العالمي بإعادة تشكيل هيكله، مستخدمًا أماكن جديدة ومناطق جبلية، خاصة في إفريقيا، للوجود هناك، إضافة إلى كثرة ظهوره الإعلامي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال إصداراته الإعلامية الثرية بالمواد الإرهابية، لتخويف خصومه وتحريض عناصره على الاستمرار في القتال، وتنفيذ المزيد من العمليات الإرهابية.
وبالحديث عن البعد الاجتماعي الذي خلَّفه الإرهاب في إفريقيا، نجد أن الجماعات المتطرفة التي ترفع شعار الدفاع عن التعاليم الدينية وهي أبعد ما تكون عن تلك التعاليم أمثال "بوكو حرام" النيجيرية، وحركة "الشباب" الصومالية، وحركة "أنتي بالاكا" في جمهورية إفريقيا الوسطى، وحركة "جيش الرب" في أوغندا، لم تكترث لجائحة كورونا، بل استمرت في استغلال العوامل الاجتماعية الموجودة في معظم البلدان الإفريقية مثل الفقر، والتهميش والإقصاء الاجتماعي، والصراعات العرقية والقبلية، ورفض الآخر، من أجل استقطاب الشباب نحو التطرف وتنفيذ مخططاتهم الخبيثة، والقيام بعملياتهم الشيطانية الإجرامية ضد المواطنين الأبرياء، أو حتى ضد قوات الشرطة والجيش. الأمر الذي بدوره قد تسبب في العديد من الخسائر البشرية، ولم يسلم من بطشهم أحد في المجتمع حتى الأطفال. فكثيرًا ما رصدناهم يجندون الأطفال، ويستخدمونهم ضمن عملياتهم الإرهابية، دون مراعاة للقيم الدينية التي يتشدَّقون بها عبر منصاتهم الإعلامية، غير واضعين في الاعتبار أن تلك القيم تدعو إلى الفضيلة، والمحافظة على الأطفال ومراعاة حقوقهم، لا أن نستغلهم ونرسلهم إلى الهلاك.
وخير دليل على ذلك ما شهدناه مؤخرًا من خطف مئات الأطفال من مدرسة في نيجيريا، في ظل ما يعيشه أفراد المجتمع من خوفٍ وقلقٍ على أنفسهم وعلى أبنائهم من الإصابة بفيروس كورونا، الذي اجتاح العالم ولا طاقة لأحد به. وما يعانيه البعض من حالة اقتصادية مزرية يتكفف فيها العيش ليحصل على أقلِّ قدرٍ ممكن من ضرورات الحياة. فأين القِيم التي صدَّعوا بها رؤوسنا عبر منصاتهم وهم يرهبون الضعفاء، ويقترفون أشد الآثام في حق الأطفال الأبرياء؟!
وتعد ظاهرة اختطاف الأطفال وطلاب المدارس، من قبل الجماعات الإرهابية في إفريقيا، لا سيما جماعة "بوكو حرام" متغيرًا أيدلوجيًا للجماعة يهدف -بعيدًا عن طلب الفدية أو تحدّي السلطات الحاكمة- إلى ترويع الأهالي؛ بحيث يمتنعون عن إرسال أبنائهم للمدارس، والتأكيد على فكرة "التعليم الغربي حرام" التي ترفع شعاره "بوكو حرام" من خلال اسمها. وبالطبع فإن كل ما تقوم به الجماعات الإرهابية من هجمات ضد مجتمعاتهم، تكون عاقبته خسائر في الأرواح البشرية وتدمير البنية الأساسية في الدول، وهو ما ينعكس بدوره على الاستثمارات، فيتسببون في خروج رؤوس الأموال؛ مما يؤثر سلبًا على الشعوب وعلى نهوض الدول وتطورها ويعرقل حياة المواطنين ويعمق الطائفية، ويهدد هوية الدول، ويكسر هيبة الجيوش، ويؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار اقتصادي في البلاد.
وقد أشار مرصد الأزهر في العديد من مقالاته وتقاريره إلى مؤشر العمليات الإرهابية في إفريقيا، وأن التداعيات الاقتصادية في إفريقيا جراء ذلك وصلت نسبتها ما يقرب من 50% في عام 2019 بعد أن كانت 3% عام 2007. فقد بلغت الخسائر الاقتصادية للقارة الإفريقية وحدها نحو 13 مليار دولار في العام 2019، وقد جاء ترتيب الدول من حيث التأثر كالتالي: - حصدت نيجيريا وليبيا والصومال ومالي النصيب الأكبر من تلك التداعيات الإرهابية، وتكبدت خسائر اقتصادية تقدر بنحو 87 %، نظير ما حصلت عليه باقي الدول الإفريقية، والتي تقدر جميعها بنحو ما يقرب 172 مليار دولار أمريكي في الفترة ما بين عام 2007 إلى عام 2019. بينما تكبدت نيجيريا وحدها نحو 142 مليار دولار أمريكي خلال تلك الفترة.
كما تضاعفت التداعيات الاقتصادية للإرهاب على قارة إفريقيا، حتى وصلت إلى 15 ضعفًا عما كان عليه في عام 2007. ولم تتوقف الخسائر عند هذا الحدِّ، بل يتوقع أن تسجل أعلى من المرصود بكثير إذا ما تمَّ احتساب باقي الخسائر على مستوى النشاط التجاري والسياسي أو الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، وغيرها من النفقات التي تصرف لمكافحة الإرهاب ولحفظ الأمن، واللاجئين، ونحو ذلك.
أضف إلى ذلك، ظاهرة الإتجار بالبشر التي صارت أكبر التحديات التي تواجهها حكومات دول منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، على حدودها لعلاقتها بالإرهاب والجريمة المنظمة، إلى جانب الإتجار بالأسلحة والمخدرات والهجرة غير الشرعية. ويشمل نشاط الإتجار بالبشر، الرجال والنساء والأطفال الذين يقعون ضحية الخطف والقسر أو الاستدراج، لممارسة أشكال مهينة من الأعمال لمصلحة المتاجرين بهم، حيث إن هذا النشاط بات يدر أموالًا طائلة للتنظيمات الإرهابية.
كما تشير التقارير الدولية إلى استمرار معدلات ظاهرة الإتجار بالبشر في الارتفاع عالميًّا، على الرغم من كل المجهودات المبذولة للقضاء عليها، حيث ازداد العدد من نحو 20 ألف حالة إتجار مسجلة في عام 2003، إلى أكثر من 25 ألف حالة مسجلة في 2016.
كل ذلك جعل مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يرى أن محاربة الإرهاب واجتثاث جذوره من مجتمعنا، يتطلب منا جميعا فهم هذه الظاهرة وتحليل وقائعها ومعطياتها وحقائقها، حتى يكون التعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة على أسس علمية واجتماعية قوية. مع ضرورة العمل على توعية الرأي العام -لا سيّما الشباب- من مخاطر الإرهاب والوقوع في براثن التطرّف، وخلق خطاب بديل يعمل على دفعهم نحو تبني سلوكيات إيجابيّة، تغذي وتدعم التفكير النقديّ، ونشر ثقافة التسامح والوسطيّة والاعتدال وقبول الآخر؛ من أجل مجابهة تلك الجماعات التي تسعى لتنفيذ أيدولوجيات مغرضة تتسبب في مقتل العديد من الأبرياء، مما ينعكس بالضرورة على الدول في شتى مناحي الحياة الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.
لذا يؤكد المرصد على ضرورة توسيع قاعدة الرد على التنظيمات المتطرفة فكريا وعسكريا وأمنيا، موضحًا أنه قد أصبح من الضروري على الجميع أن يتخذ كل التدابير اللازمة لمحاربة مثل هذه الجماعات المتطرفة. فما تقوم به الجماعات الإرهابية في إفريقيا على أرض الواقع لا يتماشى مع الزخم الإعلامي لها عبر منصاتها الإعلامية، من ادعاء الفضيلة والمثالية والحرص على تطبيق الشريعة، حتى تستقطب بذلك الشباب. كما يؤكد المرصد أن التدابير لا تقتصر على المواجهة الأمنية فحسب؛ بل تمتد إلى دراسة الظروف والأسباب التي تُكوِّن مثل هذه الأفكار المتطرفة وبالتالي الجماعات الداعمة لها، والعمل على إيجاد حلول جذرية لللقضاء عليها.