الأحد 24 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

“أُُنس الأسرة المفقودة”.. حكاية صغار وكبار بلا مأوى في أكبر مجمع بمصر (معايشة)

القاهرة 24
تقارير وتحقيقات
السبت 14/نوفمبر/2020 - 09:15 ص

حديقة صغيرة تفصلك عن المدخل الرئيسي، مرورًا بمباني المجمع، ووصولًا لمبنى “بيت عاليا”، تجمع رجالٍ بلا مأوى كلًا منهم شاردًا في حاله، بوجوه شاحبة وعيون أنهكتها الدموع وأجساد أهلكها العلاج، لكل منهم قصة خذلان مع الحياة، وربما كلًا منها أقسى من الأخرى، ولكن جميعًا يتشاركون محاولة التخطي والبحث عن حنين وأنس الأسرة المفقودة، ومأوى آمن، بعدما أصبح العالم بالنسبة لهم “دار الإيواء”.

“الأطفال وصلوا”.. يقطع الصمت صوت مشرفة الدار معلنة قدوم سيارة الأطفال من المبنى المجاور، لتذهب معها أعين النزلاء وتعلو البسمة الوجوه في انتظار طلة الصغار، وما إن تدب أرجلهم الصغيرة الأرض تدب معها الحياة في أرجاء المكان وتزيح معها شيئًا من الغمامة، تطبيقًا لتجربة الدمج بين “أطفال وكبار بلا مأوى”، التي أقامتها وزارة التضامن الاجتماعي؛ كمحاولة لتوفير الجو الأسري المفتقد لدى الطرفين.

“القاهرة 24″، زار أكبر مجمع لأطفال وكبار بلا مأوى في مصر، بمحافظة الجيزة، افتتحه نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعي، في أواخر أكتوبر الماضي، بالشراكة مع جمعية “معانا لإنقاذ إنسان”، ويتسع لنحو 250 نزيلًا، ولكن المتواجدين فيه فعليًا حتى الآن نحو 43 نزيلًا فقط من رجال وكبار سن، ومخصص لاستقبال المشردين فقط، أما السيدات فمن المخطط لهم أن يتم نقلهم بالدار فور الانتهاء من تجهيز المبنى الخاص بهم، حسب حديث نهلة، مديرة الدار.

“سنجل مازر”.. قصص أمهات أنْجَبْنَ بـ”الكفالة” أطفالًا بلا حَبَل (صور وفيديو)

على بعد أمتار قليلة، يجلس “مغربي” كفرد أمن على بوابة الدخول، ممسكًا بمصحفه الشريف، الذي يجد فيه سكينته وأنيسه الوحيد ما بين القراءة والتلاوة، إلا أن يأتي زائر للدار ليمسك بدفتر الحضور الشاهد على عامين انقضوا بالدار، وتبدأ أصابعه بالكتابة.

قبل خمسة عشر عامًا، في وجود أمه، كان محمد مغربي يلمس الطمأنينة وطعم الحياة، وحين تقسو عليه يهرول إلى أحضانها لينسى بينها همه ويشكو الناس لها، لتطيب خاطره بكلمات بسيطة ينسى بها آلامه، إلا أن صعدت روحها لبارئها ليقسم حينها على أن يهجر البشر.. فلا شئ يغني أو يعوض وجودها. ليأخذ نفسه منفردًا بصحبة ملابسه التي يرتدي فقط، نحو ميدان رمسيس، بوسط القاهرة، ويفترش الطرقات.

“كعب داير”.. طرق الشاب الذي يزحف نحو الـ38 ربيعًا من عمره، أبواب عمل عدة بحثًا عن “لقمة حلال”، ومن عتبة إلى أخرى كان رزقه بالكاد يكفي زاد اليوم، وبدموعٍ تسبق لسانه، يروي عن أمور عايشها يصفها بـ”الأسى”: “أتبهدلت كتير وشوفت أكتر.. كل ما أفتكر النعيم اللي كنت عايش فيه وأمي عايشة كنت تحت رجلها مش بفارقها، بتحصر”.

نعيم الأم لا يعوض، ولكن بعد نقله للدار منذ ما يقرب من عامين، والذي يعمل فيه كفرد أمن، عثر محمد مغربي على أكثر من الأم والأب، وبلسان حامد يردف: “كل اللي هنا أكتر من أخوات كفاية إني بلاقي حد أشاركه لقمتي، بيعوضوني عن حنية أمي، كفاية عليا إني في مكان كويس مش في الشارع وبعرف اقرأ القرآن وأصلي في مكان نضيف”.

استبشر مغربي، بقرب زواج عم صلاح، سائق بالدار، على إحدى فتيات المؤسسة، حتى يجد مُناه وسبيله في تعويض ما مضى في نصفه الآخر، وببسمة تعلو وجهه يقول: “كل اللي بتمناه زوجة بنت حلال حنينة تراعيني وتعيشني يومين”.

عقارب الساعة تشير نحو الثالثة عصرًا، حيث موعد الغذاء، البعض يتجه نحو صالة الطعام، وآخر ممسكًا بطفل يلهون سويًا وتتعالى أصوات ضحكاتهم، وعلى الجهة الأخرى، يلعب شباب النزلاء كرة القدم مع طاقم التمريض، بينما يتنافس كبار السن في لعبة “الدومينو”، وبجوارهم مشرفات الدار يتبادلا أطراف الحديث مع البقية منهم.

الرجل الخمسيني

يجلس رجل خمسيني العمر، يتابعهم من بعيد على كرسيه المتحرك، بشعر أشيب يتابع المارة ويغازل الجميع بخفة ظل وابتسامة لا تنحني، وبين الحين والآخر يلقي بعيناه نحو الصغار، يرى فيهم أنهم وهبوا “روح” للدار، ويعود مرة أخرى للعب “الدومينو” مع رفيقه “عم أحمد”.

بجلبابه الأبيض، يتذكر كيف لم يعد بين ليلة وأخرى المعلم المحروس كسابق عهده، “ربنا كان كارمني والدنيا حلوة، جزار وكبابجي صاحب محل، وربنا رزقني بولدين”، إلا أن أنقلبت حياته رأسًا على عقب بعد غدر زوجته وولداه به، منذ ثلاث أعوام، حين رفض زيجة الابن الأصغر.

“ولادي رفعوا عليا السكاكين وخدوا كل اللي ورايا وأدامي” يروي محروس بحسرة عن غدر “صلبه” له وتخلي الأهل والأصدقاء عنه وسلب كافة ممتلكاته، وعلى أثرها لازال يعاني من جلطة بقدماه حتى اليوم، قائلًا: “أختي كانت واقفة وأنا بطرد في الشارع ومرفوع عليا السكاكين وسكتت.. خافت تتكلم”.

التضامن: أطفال بلا مأوي تلقي 541 بلاغًا حتي الآن.. والقاهرة الأعلي بـ 240

ومن منطقته بـ”دار السلام”، حيث يقيم ويعمل محروس، إلى أرصفة الشوارع، انتهى به الحال، وخلال عام ونصف الآخر وجد الرجل الخمسيني، عوضه في الدنيا في الدار، حسب قوله، فعوض الله ومدده قادم لا محاله،”ربنا حرمني من ولادي ولقيت هنا أولادي وأخواتي.. مش محسسني إني غريب أحسن من أخواتي الشققاء”.

تدفع محروس عاطفة الأبوة عند حديثه عن أولاده بقوله: “الله يسهلهم ويهديهم” ساردًا أنه أخبرهم بمأواه الأن، ولكن دون جدوى لم يتلقى ولو رسالة قصيرة من أحدهم، كما كان يرجو، وبالرغم من ذاك يقول أنه سعيد ولا ينقصه شئ بوجود أخوانه من النزلاء حوله.

“في سعادة وتغيير ملحوظ في حالتهم النفسية” هكذا تقول أسماء مصطفى، إخصائية اجتماعية بالدار، متحدثة عن تأثير الرجال وكبار السن في الدار بتطبيق الدمج مع الصغار، مضيفة: “مش قادرة أوصف سعادة النزيل لما يلاقي طفل قاعد بيلعب معاه”.

الدمج يخلق جو أسري

تشير الإخصائية الاجتماعية، أن الدمج سيخلق جو أسري يساعد النزيل في استرجاع حياته مرة أخرى، مؤكدة أن الدار يقدم الدعم النفسي والمعنوي قدر الإمكان، ولكن وجود طفل سيكون له آثره بلا شك.

تلتقط منها أطراف الحديث، هاجر خالد، الأخصائية الاجتماعية المسئولة عن الأطفال بالدار، مشيرة أن التأثير الإيجابي يتضح وبشدة أيضًا في حالة الصغار، حيث أن الدار يضم أطفال من عمر 3 أشهر وحتى 6 سنوات، وكثيرًا منهم لايدري أو عايش وجود أسرة من الأساس  ليساعد الدمج في معرفتهم العلاقات الأسرية.

يقطع حديثها طفلًا يريد “ماما هاجر” يتعلق بها ولا يريد تركها لتجلس برفقته، وتقول أن الدمج لن يعوض وجود الأسرة الحقيقية بنسبة 100%، ولكنه سيساعد في إحساس كلمات “بابا، ماما، جدو وعمو”، “هيخليه يحس بجو الأسرة، بدور الرعاية يكون موجود فيها أم بديلة، ولكنه مختلف عن إحساس وجود أشخاص يعوضوا باقي أفراد الأسرة، بيحسن من حالتهم وبيفرق معاهم جدًا”

تضيف هاجر، أن ذاك التأثير جعلها تطلب من إدارة الدار زيادة أوقات الدمج عن المقرر حتى الأن، لافتة: “ومع وصول السيدات الوضع هيختلف تمامًا”.

“التضامن”: الاتجار في البشر جريمة عابرة للحدود.. ومصر الأكثر نجاحًا في مواجهتها

تابع مواقعنا