من أرشيف الثقافة المصرية (1).. معركة العقاد ومندور حول الثقافة العربية
عندما كتب الكاتب الكبير عباس محمود العقاد كتابه "الثقافة العربية أقدم من الثقافتين العبرية واليونانية" رد عليه الدكتور محمد مندور، بنقد موجز عارض فيه رأي العقادن وهو ما جعل العقاد يرد بهجوم عاصف على محمد مندور في كتابه معارك أدبية يذكر مندور وقائع الهجوم والرد كالتالي:
أما الأستاذ عباس محمود العقاد فقد أسفت لموقفه من نقدي الموجز لكتابه "الثقافة العربية أقدم من الثقافتين العبرية واليونانية"، وذلك لأننا كنا نتوقع من أديب مفکر شاعر كبير مثله أن يكون أوسع صدرا وأصلب عودا على احتمال النقد بل الترحيب به مما ظهر في رده منذ أيام في يوميات "الأخبار" على مقالى القصير الذي كنت نشرته من قبل عن كتابه المذكور.
لقد أسفت لموقف العقاد، لأنه ترك موضوع المناقشة ليتجه في رده اتجاهات شخصية لا تليق بأديب مثله كبير قدرا وسنا فراح يزعم مثلا أنني مولع بمعارضته في كل ما يقول، ولست أحس في نفسي بمثل هذا الولع ولا أری له أي داع بل أراني على العكس من ذلك قد وافقت العقاد على كثير من الحقائق التي تحراها، وذلك فيا نشرت من كتب عن الأدب العربي المعاصر، مثل الجزء الأول من كتابي " الشعر المصري بعد شوقي، ثم في المقالات الثلاث الكبيرة التي نشرتها عن "العقاد ناقدا" بمجلة "المجلة"، وفي رأيي أنني قد أنصفت العقاد أيما إنصاف عندما وفقت إلى أن أركز له فلسفة عامة في الحياة والاجتماع والأدب، جعلت محورها قيمتين يتعصب لها العقاد وهما "الحرية، و"الفردية"، وبالرغم من أنني أخالف العقاد مخالفة تكاد تكون جذرية في بعض مفاهيمه لهاتين القيمتين الكبيرتين، فإنني قد حبست معارضتي لهذه المفاهيم حتى لا أمس قيمة العقاد الفكرية، كأحد مفكرينا الذين يمكن أن نعترف لهم بمنهج متميز في التفكير وبعد كل هذا يأتي العقاد فيزعم أني مولع بمعارضته على نحو ما قال من قبل عن الأديب الراحل مصطفى صادق الرافعي، الذي كان يكيل للعقاد السباب ولا يتورع عن أن يضعه على سفود الشواء، أي على سيخ الحاتي، ثم راح العقاد يخلط بعد ذلك خلطا غير كريم في سخرية بما سماه "الجامعية" التي كتبها بلفظة "الشامعية"، ولست أرى وجها لإقحامها في رده، فلم يحدث قط ولن يحدث أن باهيت أو أباهي أحدا يجامعني وإن كان لي أن أعتز بشیء وإنما اعتز بجھادي الخاص فيما وفقت إلى تحصيله من ثقافة أو منهج علمي أخلاقي سليم في النقد والمناقشة.
وما أظني استطيع أن أسمح لنفسي بمحاربة زميل حربا ضئيلة فاشلة، بدم سیاسي رخيص منهار، مثل ذلك الذي لجأ إليه عباس محمود العقاد عندما أشار إلى المادية الاقتصادية وعمق معرفته بها. فأنا أؤكد لعباس محمود العقاد أن المادية الاقتصادية ليست أعمق ما أعرف من معرفة فضلا عن أني لا أستطيع أن أتبين أية علاقة للمادية الاقتصادية بالثقافة العربية، وكونها أقدم أو أحدث من الثقافتين العبرية واليونانية، وكنت أفضل لعباس محمود العقاد أن يكون أكرم على نفسه من مثل هذا الدس السياسي الرخيص.
وأعود بعد تسخيفي لكل هذه المهاترات إلى موضوع المناقشة فأقول إني قد أخذت على الأستاذ العقاد أنه قد تعسف في نسبته كل ما هو مساعي الأصل إلى الحضارة العربية كما أخذت عليه أنه بخلط بين الثقافة والحضارة.
فالحضارة معناها محاولة الإنسان الخروج من الحياة البدائية المستسلمة للطبيعة إلى نوع آخر من الحياة يحاول الإنسان أن يخلق بنفسه وسائلها کاکتشاف الإنسان البدائي للنار وأكله للحم الحيوان مطهوا بدلا من أكله نيئا، ثم محاولته تسجيل بعض أحداث حياته بواسطة الكناية التي كانت في بدئها تصويرية ثم تحولت فأصبحت رموزا صوتية.
وأما الثقافة فالعالم كله يعرف أنها التراث الذي خلفته أمة من الأمم مكتوبا أصلا بلغتها الخاصة، وعلى هذا الأساس قلت إن الثقافة العربية التي وصلتنا عن أجدادنا والتي ساهمت مساهمة كبيرة في الثقافة الإنسانية العامة إنما تكونت في العصور الوسطی وبعد احتكاك العرب بالثقافات الأخرى القديمة ونقلهم عنها مثل ثقافات الهند و فارس واليونان والإسرائيليات، وبالرغم من وضوح كل هذه الحجج والمفاهيم فقد راح الأستاذ العقاد يزعم أنني أنكر ما قرره من أن الثقافة العربية أقدم من العبرية واليونانية ثم يطالبني بتقديم الدليل على ما أقول، وكأنني لم أقدم دليلا لم يتعرض له العقاد بأية مناقشة فضلا عن أن العقاد لابد من أن يعرف وهو الذي يفوق "الجامعية" معرفة وفهما أن من المبادئ الأولية المبدأ القائل بأن البينة على من ادعى واليمين على من أنك ، وهو الذي يدعى بأن الثقافه العربية أقدم من العربية واليونانية، وأنا الذي أنكر فعليه هو البينة أي تقديم الأدلة وعلى أنا إذا أراد اليمين.. وهأنذا على استعداد بأن أؤديها!.. فأقسم له بأن ما يزعمه لا يمكن أن يستقيم مع أي تفكير علمي سليم أو أي بحث تاریخی مستقیم ، وكل ذلك فضلا عما قلته من أنني لا أحب أن نقيم محدنا العربي على كثبان من الرمل ولدينا من الأمجاد ما يغني عن مثل هذا.