في ذكرى رحيل الشيخ محمد سيد طنطاوي.. تعرف على فتواه حول نقل الأعضاء البشرية
تحل اليوم ذكرى رحيل الإمام الأكبر شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي، الذي وافته المنية في مثل هذا اليوم من عام 2010 بعد مسيرة حافلة بالعطاء العلمي والتنوير والفكر الوسطي، وفي هذه المناسبة نستعرض فتاوى الإمام حول حكم نقل الأعضاء البشرية.
1- حكم بيع الأعضاء البشرية
في هذا الأمر يرى الإمام أن شريعة الإسلام قد كرمت الإنسان تكريمًا عظيمًا، وأمرت بالمحافظة عليه من كل ما يهلکه أو يسوؤه، ونهت عن قتله أو إنزال الأذى به إلا بالحق وبينت بكل صراحة ووضوح أن الإنسان لا يجوز له أن يتصرف في جسده، تصرفا يؤدى إلى إهلاكه أو إتلافه أو ضرره لأن كل إنسان- وإن كان صاحب إرادة بالنسبة لجسده إلا أن هذه الإرادة مقيدة بالحدود التي شرعها الله تعالى، وبالنطاق المستفاد من قوله عز وجل: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"
ومن قوله تعالی:
"ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما".
وبناء على كل ذلك فقد اتفق المحققون من الفقهاء على أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع عضوًا من أعضاء جسده، أيا كان هذا العضو وذلك لأسباب متعددة أهمها:
أن جسد الإنسان وما يتكون منه من أعضاء ليس محلا للبيعوالشراء وليس سلعة من السلع التي يصح فيها التبادل التجاري.
وإنما جسد الإنسان بناء بناه الله تعالى وكرمه وسما به عن البيع والشراء وحرم المتاجرة فيه تحريما قاطعا لأن بيع الآدمي أو بيع جزء منه باطل شرعا لكرامته بنص القرآن الكريم الذي يقول: "ولقد کرمنا بني آدم.." وقد اتفق الفقهاء على بطلان البيع أو الشراء بالنسبة لبدن الإنسان أو لأي عضو من أعضائه.
ثانيا: أن الإنسان ما هو إلا أمين على هذا الجسد ومأمور بأن يتصرف في هذه الأمانة بما يصلحها لا بما يفسدها فإذا تجاوز الإنسان هذه الحدود وتصرف في جسده بما يتعارض مع إصلاحه كان خائنا للأمانة التي ائتمنه الله عليها وكان تصرفه محرما وباطلا، لأنه تصرف فيما ائتمن عليه تصرفا سيئا بدليل قوله تعالی: "ألا له الخلق والأمر" يدل على رقة الدين، وسفه العقل وحمق التفكير.
ثالثا: لا يقال إن من القواعد الشرعية القاعدة التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات"، وبناء على ذلك يجوز للإنسان أن يتصرف في جسده عند الضرورة، لأننا نقول في الرد على هذا القيل: إن التصرف عند الضرورة إنما يكون في حدود ما أحله الله وفضلا عن ذلك فإن هذه القاعدة مقيدة بقواعد أخرى تضبطها، ومن هذه القواعد الضرر لا يزال بالضرر، أي أنه لا يجوز إزالة الضرر بضرر يشبهه أو يزيد عليه. ولذلك قالوا لا يجوز للجائع مثلا أن يأخذ طعام جائع مثله، عن طريق السرقة أو ما يشبهها كما أنه لا تفرض نفقة على الفقير لقريبه.
ومما لا شك فيه أن بيع عضو من أعضاء الجسد- أيا كان هذا العضو يمثل ضررا شديدا لبدن الإنسان، وهذا الضرر يزيد على ما يتعرض له الإنسان من فاقة أو عسر أو احتياج لأن هذا الاحتياج، هناك وسائل تدفعه، منها: مباشرة الأسباب المشروعة للحصول على الرزق.
2- حكم التبرع بعضو من الأعضاء:
وقد يسأل سائل فيقول: إذا كان بيع الإنسان لعضو من أعضائه باطلا ومحرما شرعا لأن جسد الإنسان وأعضاءه ليست محلا للمتاجرة فيها، فهل الأمر كذلك بالنسبة للتبرع أو للهبة، بأن يتبرع الإنسان بعضو من أعضائه لشخص آخر محتاج إليه؟
والجواب على ذلك أن بعض العلماء لا يفرق بين الحالتين، وإنما يرى أن كليهما غير جائز، سواء أكان عن طريق البيع أم عن طريق التبرع، لأن التبرع إنما يكون فيما يملكه الإنسان والمالك الحقيقي لجسد الإنسان هو الله سبحانه وتعالى أما الإنسان فهو أمين على جسده فقط ومطلوب منه أن يحافظ عليه مما يهلكه أو يؤذيه استجابة لقوله تعالی: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". (البقرة الآية 195) ويرى جمهور الفقهاء أن التبرع بعضو أو بجزء من إنسان حي لإنسان آخر مثله جائز بشروط من أهمها:
أن يصرح الطبيب أو الأطباء الثقاة، بأن نقل هذا العضو من شخص إلى آخر لا يترتب عليه ضرر بليغ بالشخص المتبرع، وإنما يترتب عليه حياة الشخص المتبرع له، أو إنقاذه من مرض عضال.
ونحن نميل إلى هذا الرأي، لأن التبرع قلما يصدر عن الإنسان إلا في أشد حالات الضرورة وقلما يكون إلا لشخص عزيز على هذا الإنسان المشرع، ولأن المتبرع ما فعل ذلك إلا بقصد تقديم منفعة عظيمة لغيره مبتغيا بها وجه الله تعالی
ولا يقال: إن جسم الإنسان ليس ملكا له، وإنما هو ملك الله - تعالى – وما دام الأمر كذلك فلا يصح للإنسان أن يتصرف فيما لا يملكه بالبيع ولا بالتبرع.
لأننا نقول: إن الكون كله ملك لله - تعالى - وليس جسد الإنسان وحده، ومع ذلك فقد أباح الله - سبحانه - للناس أن يتصرفوا فيما يملكه - عز وجل - بالطريقة التي ترضيه.
ولاشك أن فضيلة الإيثار ودفع الأذى عن الغير، على رأس الفضائل التي يحبها الله عز وجل - ويكافئ أصحابها بما يستحقونه من ثواب جزیل.
هذا، ويدخل تحت هذه القاعدة، وهي حرمة بيع شيء من أجزاء الإنسان، ما يتعلق بالدم فإنه لا يجوز بيعه، لأنه باطل شرعا.
أما التبرع به فهو جائز، لأنه كما يقول- أهل الخبرة- من آثار الذات وليس من أعضائها بدليل أنه يتغير ويتجدد، ويستعيض الإنسان ما فقده منه.
3- حكم نقل شيء من أعضاء الميت إلى الحي:
هل يجوز نقل شيء من أعضاء الإنسان الميت إلى الإنسان الحي للانتفاع بهذا العضو المنقول؟
وللإجابة على ذلك نقول:
إن شريعة الإسلام قد كرمت جسد الإنسان حيا وميتا، ونهت عن ابتذاله وتشويهه أو الاعتداء عليه بأي لون من ألوان الاعتداء ومن مظاهر هذا التكريم الأمر بتغسيله، وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه.
ولقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه بعد الانتهاء من الغزو ألا يترك جسد إنسان ملقى على الأرض سواء أكان لمسلم أم لغير مسلم، وقد حدث في غزوة بدر أن أمر صلى الله عليه وسلم بدفن المشركين، كما أمر بدفن شهداء المسلمين، وقال في حديثه الشريف: (کسر عظم الميت ككسره حیا) أي: أن عقوبة من يعتدي على جسد الميت كعقوبة من يتعدى على جسد الحي.
ولذا قال بعض العلماء بحرمة التبرع بشيء من أجزاء الجسد لا في حال الحياة ولا في حال الوفاة، لأن الإنسان لا يملك التصرف في جسده لا في حياته ولا بعد الوفاة، وكذلك ورثته أو غيرهم لا يملكون ذلك، وأن الذي يملك التصرف في جسد الإنسان وذاته هو خالقه عز وجل.
ويرى جمهور الفقهاء: أنه يجوز نقل عضو من أعضاء الميت إلى جسم إنسان في إذا كان هذا النقل يؤدي إلى منفعة الإنسان المنقول إليه هذا العضو ومنفعة ضرورية لا يوجد بديل لها، وإن يحكم بذلك الطبيب المتخصص الثقة لأن الأطباء هم سادة الموقف في أمثال هذه الحالات وهم المسؤولون مسؤولية تامة عن تصرفاتهم أمام الله- تعالى- أولاً، وأمام من يملك محاسبتهم على أعمالهم من رجال الطب أو القانون أو غيرهم، وهذا الرأي هو الذي نرجحه ونؤيده.
وإنما قلنا بجواز ذلك بناء على القاعدة الفقهية المشهورة وهي: "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"
والضرر الأشد هنا يتمثل في بقاء الإنسان الحى عرضة للمرض الشديد وللهلاك المتوقع، والضرر الأخف هنا يتمثل في أخذ شيء من أجزاء الميت العلاج الإنسان الحي.