هل ينجو جوزيف أو يموت؟
تحكي الأساطير الحضرية دائما عن أن أشرس الوحوش هو ذلك النوع الخفي، الذي لا تعلم من أين تأتيك ضربته، وكيف تتعامل معه؟ لأنه مجهول بالنسبة لك، فليس بوسعك حينها إلا الاستسلام للعنته، ليس أشرس علينا من مجهول، هكذا كان حال البشرية مع الأمراض تلك اللعنات غير المرئية التي كانت تفتك بالجميع، وتترك المدن بعد أن تدخلها خرابا، كان هذا قبل لويس باستور الذي أصابته اللعنات في أعز ما لديه، حيث فقد ثلاثة من بناته، اثنتان بسبب حمى التيفويد، وواحدة بمرض في المخ بين عامي 1859 و1866م، وفي عام 1870م هاجمت ألمانيا فرنسا وأصيب كثير من الجنود بحمى التيفويد ومن بين هؤلاء الجنود ابنه جان بابتيست، كان هذا دافعا قويا له لدراسة المرض للكشف عن ذلك المجهول الذي يهدد البشرية.
البداية كانت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر حين كان الاعتقاد سائدا بأن التعفن -إفساد الطعام -والتخمر هما عمليتان كيميائيتان ناتجتان عن الأكسجين في الهواء. حينها استخدم كل من تيودور شوان وتشارلز كاجنيارد دي لا تور المجاهر لملاحظة أن خميرة البيرة تتكون من تكاثر الخلايا، واقترحا أن الكحول كان نتاج نموها. وللأسف تم تجاهل أفكارهما إلى حد كبير حتى أجرى لويس باستير تجاربه التفصيلية التي دحضت نظرية التحلل الكيميائي.
كانت النظرية الشائعة الأخرى في ذلك الوقت هي التوليد التلقائي -الفكرة، التي يعود تاريخها إلى أرسطو التي تقول إن الكائنات الحية يمكن أن تنشأ من مادة غير حية.
أظهر باستور أنه إذا تم استبعاد الهواء من التسريب المغلي، فلن تظهر فيه كائنات حية، ولكن إذا سمح للغبار الجوي بالدخول، فستظهر الميكروبات في غضون أيام.
أدرك باستور أن الميكروبات مسؤولة عن إفساد الطعام، وخاصة النبيذ. واكتشف أن تسخين النبيذ إلى 55 درجة مئوية يقتل البكتيريا ويوقف إفساد النبيذ دون التأثير على الطعم، وأصبحت تلك العملية معروفة باسم البسترة، ولا تزال تستخدم على نطاق واسع حتى اليوم.
في عام 1880، أبلغ باستور عن تجارب على كوليرا الدجاج، والتي عزلها جان جوزيف هنري توسان في وقت سابق، وجد باستور أنه باستخدام تقنيات استزراع معينة، كان من الممكن تقليل ضراوة الميكروب، وأن تلقيح الدجاج بهذه الميكروبات الضعيفة يمكن أن يحصنها ضد المرض. ورأى أنه يمكن تطبيق هذا المبدأ لصنع لقاحات ضد جميع الأمراض المعدية.
المدهش في الأمر أن باستور لم يكن لديه أي علم بجهاز المناعة وطبيعة عمله، وكان يعتقد أن اللقاحات تعمل عن طريق استنفاد العناصر الغذائية الأساسية التي يحتاجها العامل الممرض في المضيف، مما يجعل المضيف غير مناسب للعدوى اللاحقة.
انتشرت الكلاب الضالة وعانى الناس من داء الكلب الذي اودى بحياة الكثير من الناس وارادت السلطات الفرنسية الاستعانة بباستور لإيجاد لقاح لداء الكلب وأجرى تجاربه وبالفعل أنتج اللقاح لكن لم يجرؤ باستور بتجربته على البشر، وظل فترة طويلة إلى أن اصيبت فتاه بداء الكلب ودخلت المستشفى وأراد أحد الأطباء الاستعانة بالعالم باستور لتجربة اللقاح على البنت لأنه لم يكن هناك خيار آخر.
وبعد حقن البنت باللقاح ولسوء حظ باستور ماتت البنت. وأصيب باستور بحالة نفسية سيئة أثرت على تجاربه، لكن، سرعان ما تعافى وأكمل ابحاثه التي اثبتت له فيما بعد ان مرض البنت كان في مرحلة متقدمة.
وجاءت أم جوزيف السيدة مايستر وكان ذلك في عام 1885م للعالم باستور تستنجد به لعلاج ابنها جوزيف من داء الكلب، وبالفعل تم حقن جوزيف بفيروس داء الكلب عدة حقنات على مدار عدة أيام وفي آخر يوم تم حقنه بجرعة كبيرة وقتها لم ينم باستور.
وأخذ يفكر طيلة الليلة هل ينجو جوزيف أم يموت؟ في تلك المرة تعافى جوزيف وكتب له الشفاء ومارس حياته بشكل طبيعي كما كانت من قبل، وأصبحت فرنسا محفلا عالميا لوجود اللقاحات بفضل العالم باستور.
وكافأت الحكومة الفرنسية هذا العالم وأطلقت اسمه على أكبر معهد علمي سمي معهد باستور عام 1888 م، ثم انتهت حياة باستور وهو عاكف على دراسة بكتيريا الطاعون، لم تبخل عليه الحكومة الفرنسية في إقامة جنازة رسمية له، وكتب عليه القدر ألا يفارق أبحاثه وعلمه بأن يظل شاهدًا على كل ما هو جديد في العلم حيث دفن أسفل معهد باستور، الذي شهد له العالم وكل من وفد إليه أنه أحد أهم المعاهد البحثية التي تهتم بعلوم الميكروبيولوجي والمناعة واللقاحات.
علامة استفهام كبيرة يحق للفرنسيين ومن خلفهم العالم أن يرسموها على موقع فرنسا العلمي اليوم وسط خروجها المخزي من خريطة التنافس على إنتاج لقاحات ضد فيروس كورونا المستجد، حتى باتت تسعى جاهدة لتوفير اللقاحات من دول أخرى، علامة الاستفهام لا تأتي من كون فرنسا دولة متقدمة وحسب، ولكن لأنها كانت صاحبة الريادة في ابتكار فكرة اللقاحات وعلوم المناعة، حيث يعد لويس باستور رائد فكرة اللقاحات.