رفعت العراقي يكتب: مفارقة الحلم والواقع في "طقوس المتعة" لدعاء أحمد شكري
(طقوس المتعة) للكاتبة دعاء أحمد شكري عنوانٌ مشعٌ ومشكلٌ معاً، اختارته الكاتبة لمجموعتها القصصية، مشعٌ ينير لك دروب قصصها، ويربطها معاً بخيط من الحس والفكر لن تفلته حتى آخر قصة فيها (رائحة التوت)، ومشكل لأن هذا التركيب الإضافي بين الطقوس والمتعة يبدو متناقضاً وجدلياً على نحو صارخ، فالطقوس لفظ شعائري مقدس مقيد في الأذهان بالأديان والعبادات، في حين أن المتعة - وإن احتملت وجوهاً من التفسير - فهي التمرد والتحلل من هذه الأديان وتلك العبادات، فماذا أرادت الكاتبة بالضبط ؟
ليس مطلوباً من الكاتب أن يفسر، ولا أن يُطلب منه أن يفسر، فالعمل الإبداعي بين يديك فسره على أي نحو تراه، وما تراه وتقرأه صحيح على وجه من الوجوه.
والذي يبدو لي من التطواف عبر قصص المجموعة أن المجتمعات العربية المعاصرة صنعت من العادات والتقاليد والموروثات أدياناً وقيوداً، ووضعت لها طقوساً، ليس لها أصل من دين أو عقل أو مروءة، خاصة فيما يتعلق بالمرأة، والكاتبة مسكونة بهذه الفكرة، أعني معاناة المرأة في مجتمعاتنا الشرقية من تلك الموروثات التى قدسوها، وقيدوا المرأة فيها تحت ستار من القوامة والإعالة، يمكن للقارئ من غير عناء أن يلمح هذا الهاجس حاضراً عبر قصص المجموعة، رابطاً بينها على نحو ما في طقوس المتعة، غير أن ههنا ملاحظتين :-
أولاً : غياب المعادل الموضوعي في بعض القصص جعل المباشرة تغلب عليها، غير أن مهارة الكاتبة في منح الحدث تدفقاً واندفاعاً كالروح السارية عبر المجموعة كثيراً ما وارت هذا الثلم.
ثانياً : بعض القصص كانت نقطة الصراع فيها ضعيفة أو مكشوفة وأحيانا غير موجودة، وكانت الكاتبة تعوض ذلك - على نحو موفق - بالصدمة والمفاجأة، وهما شيء غير الصراع، والمهارة في النقلة والمفاجاة قد ينسيك الصراع أو ينوب عنه على نحو ما، ولكنه ليس هو كما يتوهم البعض.
والغالب على قصص المجموعة النمط التسجيلي أو النمط السيكولوجي، وأحياناً النمط الميثولوجي كما في ( شجر الباوبابا ) ولذلك راوحت الكاتبة بين الواقعية ورومانسية الثلاثينيات والأربعينيات التي صبغت القصة المصرية في تلك الفترة بكل ما فيها من شبق وإيحاء، كما حاولت - في تجربة مقبولة - استلهام الأساطير اليونانية، وتوظيفها في سياق السرد، ومنحت تلك المرونة للكاتبة قدرة هائلة على التحليل والإيماء، وبث المعاني والأفكار في مهارة وتلقائية.
والحوار في هذه المجموعة متماهي تماماً مع الحدث متدفقاً ومنساباً معه في نجاح كبير للكاتبة على المستوى الفني، وبين المنولوج الذاتي والسرد والحوار القصير وأحياناً الممتد - قياساً على ما تحتمله القصة القصيرة - تنوعت الجملة الحوارية تنوعاً لافتاً بحسب الشخصيات ومواقفهم، كما أن لغة الحوار اختلفت بين الفصيح والعامي والسوقي اختلافاً موفقاً إلا في مواقف قليلة جداً.
وعلى الرغم من غلبة ( الهو ) الغائب، وغياب ( الأنا ) الكاتبة وضميرها المتكلم إلا أنك تشعر بها خلف كل كلمة، ووراء كل حس، تراقب من خلف الستار باسمة أو عابسة أو معترضة ، فبينها وبين أبطالها صلة لا تعرفها.
أنت .
وإذا أردنا الدقة قلنا إن ( الهي ) الغائبة هي المسيطرة، فالكاتبة مسكونة بها، متعاطفة معها، أو مشفقة عليها، أو موجهة لها، مبحرة فيها جسداً وحساً في ( طقوس المتعة ).
وحقق طغيان ( الهي ) الغائبة للمجموعة نجاحاً كبيراً على مستوى ( الوحدة ) ليس فقط على مستوى القصة الواحدة بل على مستوى وحدة المجموعة القصصية أيضاً، فأنت في قيد ( الهي ) حاضرة أو غائبة، فاعلة أو محايدة، وأحداث القصة أيضاً لم تفلت من هذا القيد ما منح المجموعة وحدةً وتماسكاً ربما قربها جداً من المسرحية .
وبرعت الكاتبة في الانتقال بين الأزمنة، تنقل الحاضر إلى الماضي، وتجر الماضي إلى الحاضر، وتذهب بهما معاً إلى الآتي واقعاً أو متخيلاً، وتلك المراوحة بين الأزمنة هي أداة دقيقة لتحليل النفس البشرية، وفض مغاليق الروح، وتفسير ما لا يفسرمنها، وفي السياق نفسه كانت المزاوجة بين الواقع والخيال، في محاولة مقصودة للبوح أو التنفيس والإيماء.
أما أهم ما يميز المجموعة - في نظري - فهو المفارقة بين الواقع والحلم، أو بين ما نعيشه وما نحبه، بين القبح الجاثم على أنفاسنا في كل مفاصل الحياة وبين الجمال المتخيل ولا وجود له، أوقعت المجموعة قسرأً في تلك المفارقة ممزقاً بين ما تعيشه وما تحبه .
وأخيراً : النهايات غير تقليدية في معظمها، وفتوحة على الاحتمالات ما رسخ فكرة المفارقة السابقة، وأحياناً نهايات منطقية متوقعة، لكنها موظفة جيداً في سياق الحدث، ولذلك ستخرج من طقوس المتعة باحثاً عن طرف المفارقة الضائع (الحلم).