ماضي الجدري ومستقبل الكورونا
كتب عليها القدر ألا تشارك العالم فرحته في القضاء على وباء فيروس الجدري، على الرغم من معايشتها لهذا الوباء لحظة بلحظة، فقد كانت من المشاركين لتأريخ جميع الأحداث المصاحبة له، وكان حلما بعيد المنال أن يتم القضاء على هذا الوباء الذي وصل عدد حالات الوفاة بسببه إلى 500 مليون إنسان تقريبًا، غير الذين كتبت لهم النجاة وعاشوا مشوهي الأطراف، تاركة عليهم آثارًا نفسية تمنوا معها لو كانوا قد لقوا حتفهم كالباقين، لذا لم يتصور العالم وقتها القضاء على هذا الوباء، حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية شفاء آخر حالة مصابة به والقضاء على مرض الجدري في العالم عام 1980م بفضل التلقيح ضد الفيروس المسبب للإصابة.
كانت بداية القصة مع البروفيسور "هنري بيدسون" المتخصص في علم الفيروسات والأوبئة حيث شارك ضمن 150 ألف طبيب من قبل منظمة الصحة العالمية في دراسة ومكافحة وباء الجدري، وكانت هناك الكثير من الأسئلة حول الوباء ومسبباته وكيفية انتشاره والمناطق الأكثر تضرراً وكيفية الوقاية والتعافي منه، ففكر هنري بيدسون كيف يغتنم الفرصة جراء تلك التساؤلات فطلب من منظمة الصحة العالمية السماح له بنقل عينات من الفيروس لمعمله في برمنغهام ببريطانيا لكن الامر كان عسيرًا وقوبل في بدايته بالرفض، لكنه ظل يلح على المنظمة حتى جاءته الموافقة عام 1978م ونقلت العينات إلى معمله، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى جاءه مندوب من معمله وهو جالس في بيته ليخبره بأن أحد أفراد فريق العمل بمعمله وهي جانيت باركر قد أصيبت بالجدري.
وجهت أصابع الاتهام من الشعب والحكومة البريطانية والأجهزة الإعلامية إلى هنري بيدسون، بأنه السبب فيما حدث، وبعدها على الفور فوجئت زوجة هنري بيدسون بانتحاره في حديقة منزله، وكان في انتحاره اعتراف ضمني عن مسؤوليته في تسرب الفيروس كما اعتقد الكثيرون وقتها.
عاد الذعر مرة أخرى واجتاح العالم خاصة بريطانيا حيث لم تشهد أي عدوى قبل إصابة جانيت باركر بأربعة أعوام.
تم حصر وتطعيم جميع من خالط باركر من أفراد أسرتها ومن يعمل وتعامل معها، وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة كان واجب عليها أن تتذكر من خالطها وكيف انتقل لها الفيروس لكن لم تستطع الإجابة على الاستفسار الأخير وماتت هي الأخرى وكانت آخر ضحايا الجدري ومات معها السر الذي لم يفسر حتى يومنا هذا وما زال السؤال الذي يطرح نفسه.
كيف أصيبت باركر؟
وقتها كانت الإجابة مهمة جداً حتى لا يعيد الماضي أنفاسه المريرة على الحاضر والمستقبل ولإنقاذ الكثير من الناس.
لم يمر الأمر بسهولة، فتمت مقاضاة جامعة برمنغهام وقتها وألقت الحكومة البريطانية وذلك من خلال تقرير أعدته اللوم على كل العاملين بمختبر برمنغهام في عام 1980م وذلك للتسبب في نشر العدوى وإصابة باركر.
لا نقوم هنا بسرد قصة حقيقية حدثت منذ ثلاثين سنة لنعيد الماضي بلا هدف، ولكن لنتعلم مما حدث ونتجنب الوقوع فيه مرة أخرى، فالاحتفاظ بمسببات الوبائيات لابد وأن يخضع للموافقات والأخلاقيات الطبية، تسريب الفيروسات خارج المختبرات أمر ليس ببعيد إما عن طريق التيارات الهوائية أو عن طريق الاتصال بأدوات وأجهزة ملوثة أو عن طريق الاتصال الشخصي.
المختبرات التي تجرى فيها الدراسات على الميكروبات خاصة التي تسببت في تفشي الأوبئة لابد وأن تخضع للرقابة الدائمة بعد القضاء على الوباء ولابد وأن يتم الاعلان عن الجهات والحكومات التي تحتفظ بعينات من مسببات الأوبئة خاصة الفيروسات.
فلا أحد يعلم ما يمكن أن يسببه خطأ صغير من كوراث تعصف بالعالم أجمع.
أ.د. طارق محمد عبد الغني
استاذ الميكروبيولوجي بعلوم الازهر