الوصية.. قصة قصيرة لإبراهيم معوض
ألقاها على الفراش بصعوبة بالغة، فبرغم نحافة جسدها ودقة أطرافها إلا أنها ثقيلة وكأن عظامها محشوة بالرمال، تشبثت فى رقبته الطويلة وهو يلقى برأسها على الوسادة ثم تركتها رويدًا وهو يئن:
- أى خدمة تانى يا ستنا
- أنت مين؟
- كل يوم نفس السؤال. أنا عطوه طباخ القصر يا ستى
- غور هعوز منك إيه إبعت لى سيدك رؤوف
- حاضر
ثم انصرف الرجل وهو يحرك عنقه بيده لتخفيف حدة ألمه، ويلوك كلمات السخط والحنق فى فمه فلا يفهمها سواه، القصر كبير والأعمال شاقة عليه، وهو طباخ وممرضة..
وبينما هو مستغرق فى سخطه على عمله وأيامه ورزقه القليل يبصر أمامه سيده رؤوف
- ستى عايزاك سيدى
- عايزه إيه دى؟ غور إنت
فانصرف وهو ما زال يغمغم
-غور غور حاجه تقرف
ثم دفع بنفسه ورأسه داخل المطبخ وانغمس فى أعماله اليومية
يتحرك رؤوف بأقدام متثاقلة تجاه حجرتها ودفع بنفسه من الباب وكأنه مقبل على موته، يجلس على طرف سريرها فى فتور، وهو يلقى بصره خلسة على الساعة:
- طلبتينى يا ماما
- مش فاكرة. على العموم أخبار الشغل معاك إيه؟ لسه زى ما انت ولا بقيت بتخاف من ربنا؟
- ربنا يخليكى لينا يا ماما
- أنا شكلى كده قربت أموت وأريحك
- بعيد الشر ماما
- أنا كتبت وصيتى خدها إقراها
فأخذها رؤوف ودسها فى جيبه، وطبع قبلة فاترة على جبينها ثم انصرف بهمة ونشاط، دلف إلى مكتبه يبحث فى أوراقه، فهو مقبل على صفقة العمر لو نجحت ستنقله وعائلته إلى التحكم فى السوق بأكملة، ولابد من ترتيب الأوراق وتوزيع الأدوار على باقى أفراد العائلة، فهو مازال يعمل كما أمره أبوه أن يحركهم كأبطال الرواية، ويحتفظ لنفسه دوما بدور المخرج، قضى وقتا طويلًا فى تقليب الصفحات ووضع الخطط والدراسات، والقهوه تلو القهوه والسيجار الفاخر لا يغادر أصابعه، توقف للحظة ثم فكر وعصر جبينه بكفه، أخرج الوصية من جيبه ، فوجد فيها جملًا شائهة بلا معنى وكأنها مكتوبة بلغة الجان فإبتسم، ولكن الفضول دفعه أن يحاول قراءتها من جديد فلم ير فى صفحاتها العديدة سوى كلمه واحده مترابطة "لا تقتل".
فضحك ضحكة مدوية وهو يطويها وينحيها جانبًا..