"المقرأة".. قراءة في قصيدة يتيم في بور سعيد لفؤاد حداد
نقرأ اليوم قصيدة للشاعر المصري الكبير فؤاد حداد، والذي دائمًا ما اشتهر بشعر المقاومة وشعر الأمل، فَهو والد شعراء العصر الحديث كما يعتبره الكثيرون، وهي قصيدة "يتيم في بور سعيد" من ديوان "بقوة الفلاحين وبقوة العمال" والتي يتحدث فيها عن العدوان على مصر ومقاومة المدينة الباسلة له.
"بعد الرصاص ما سكت كان الرصاص بيفوح
الجو حابس آلامه والحجر مجروح
الأوله آه على عيل يتيم بينوح
والثانية آه فين أبوه وامه وفين هيروح"
بدأ قصيدته بذكر الهدوء الذي لحق العاصفة، وذلك الهدوء أبشع من الذي يسبقها، حيث أنه هدوء أحدثه الصدمة، وفرضه التعب، سكَت رصاص البنادق، وبقى رصاص الجراح، والتي طالت كل شيء حتى الحجر، ذلك الرصاص الذي خلف وراءه هذا الطفل الباكي على والديه، وعلى بيته المهدم.
"والتالتة آه كان لنا في الشمس بيت وسطوح
ياقلبي دقت إيدين على بابك المفتوح
عيل يتيم على تل من الحجر بينوح
ويبص لك بعيون أوسع من الأجفان
ويبص للأرض يلقى الشىء ولا يلمه
الطوبة دى كانت البيت اللى بيضمه
والهدمة دى لسة فيها ريحة من أمه
والرملة دى قايدة من عرقه ومن دمه
كل المآسى اللى فوق الأرض بتهمه"
مأساة الطفل، وهو يقصد كل طفل مزقته الحرب، قد امتدت حتى دخلت إلى قلبه، تشتكي له، واقفًا على طلل بيته، متذكرًا وقت ما كانت تلك الحجارة تحتويه، وتحميه من الأخطار، تجمعه بعائلته، تلك التي ذهبت كما ذهب البيت، تمزقت كما تحطم، لم يبقى منها إلا الطلل، تلك القماشة الممزقة، هي الباقية من أمه، ذلك الطفل الذي أفجعته الحرب فأنضجته، فأصبح يفجع لكل مأساة!.
"عيل يتيم على أطلال البلد سهران
جعان ولا بيشتكى من الجوع ولا يقول آه
بردان ولا بيشتكى من البرد مهما سقاه
بيسأل اليتيم كام عيل ف سنه لقاه
حتى الحجر انتفض من نظرته لشقاه"
يفتح الشاعر الكادر ليرينا أن الطلل ليس لبيت ذلك الطفل، بل المدينة كلها اصبحت طلل! في وسط كل هذا الدمار لا صوت يعلو لجوعٍ أو عطش، كيف ينال البرد والجوع من جسد لم يستطيع الرصاص والقنابل أن تنال منه!، يتحدث لليتم، وكأنه رجل يتجول ليجمع الأطفال ويضمهم إلى جيشه من الأيتام!.
"وقف ولف المدينة كلها ورآه
رأى الحنان ف عيون الشعب كلُّه حنان
رأى القلوب ف عيون المعركة ثابتة
رأى الآمال على أطلال البلد نابتة
رأى الحمام حط جنبه والتفت لفتة
لا الأولة آه ولا التانية ولا التالتة
مسح اليتيم دمعته واتحطم العدوان"
لكنه الأمل، وحده الذي يُشعل فتيل المقاومة، يحول الهزيمة لنصر، يجمع الشتات لعصبة، "لا الأولة" نُواحه وصراخه "ولا التانية" يُتمه "ولا التالتة" بيته المتهدم، ولا أي شيء سيمنعه عن المقاومة وعن استمرار السعي حتى الانتصار، عندما وُجِد الأمل تحطم كل ألم وأُسقِط عدوان الطغاة.