"نَم مستريحًا يا طه".. ماذا قال يوسف إدريس لعميد الأدب العربي في رسالته؟
تمر اليوم ذكرى رحيل القاص المصري الكبير، أبو القصة المصرية، ومطورها الكاتب "يوسف إدريس" المتوفى في 1 أغسطس من العام 1991، بعد رحلة حافلة من الإنجازات في عالم القصة والأدب، ونحن بصدد عرض رسالته لطه حسين، والتي كتبها بعد سنوات من وفاة العميد، وألحقها بكتابه "مدينة الملائكة" بمناسبة معرض الكتاب، بعنوان "أحفادك يا طه"، وهي مقال جاء في صورة رسالة يصف فيها أحوال الثقافة، وتعافي مصر من آثار نكسة يونيو، فطمأن العميد وهو في قبره بأن القاهرة عادت عاصمة للثقافة.
وكان العميد ممن دعموا إدريس في بداياته بعد إصدار "أرخص ليالي" التي أعجبته كثيرًا، وفي "جمهورية فرحات" صدّرها طه حسين بمقدمة يمتدح فيها إدريس وموهبته، ويعتبره من أهم المواهب المصرية، وأنه سيسير على خطى من سبقوه من العظماء في مجال الأدب.
ويقول إدريس موجهًا كلامه لطه حسين: "يا أستاذنا طه حسين الذي قلت في أعوام عجاف: أخشى أن تكون القاهرة قد فقدت دورها كعاصمة للثقافة، ألا تحس في مرقدك العظيم القريب بدبيب الآلاف والآلاف من القراء والكتاب والمتعلمين والمثقفين وأبناء وبنات وأمهات الشعب، الزاحفين إلى معرض الكتاب من كل مكان: من القاهرة وعمان والرياض وبغداد وجنيف وتونس والمغرب واليمن والإمارات وعواصم أوروبا؟ ألا تحس بجبال الكتب القادمة من كل أنحاء الدنيا قد ثبتت أرض معرضنا وأصبحت رواسي وأثقالًا تجعلني أجرؤ وأقول لك: لقد عدنا يا طه حسين والعود أحمد، لقد عدنا إلى طه حسين وعاد إلينا طه حسين ومئات معه. ألست فرحًا بأحفادك الكُتاب الشبان وكتبهم تُعرض وتُترجم وتُدرس وملامحهم ثابتة الوثوق أمام الكاميرات والميكروفونات وجماهير الندوات الحاشدة؟ عدنا وعادت القاهرة ليست عاصمة فقط، ولكن عادت عيدًا للثقافة والشعراء وللكلمة والرمز الذي يجمع أمة العرب ويستأمنونه على كل أمجادهم: على كل أبي علائهم، كل متنبيهم، على قرطبيهم وبخاريهم، وحتى على المقدس مصحفهم وأناجيلهم، على كل ألوان فنونهم وكمبيوتراتهم وأدب أطفالهم، موسيقاهم ورقصهم، مسرحهم ورباباتهم، سبحان الله العلي العظيم، الازدحام الذي لا أطيقه في شوارعنا أكاد أضمه إلى صدري هنا"
وأضاف: "كبِرَتْ الحديقة يا أستاذنا جدًّا، أشجار كافورها استطالت ووصلت عنان السماء، ويَسْمِينُها لا نظير له؛ فرائحته مصرية عربية أصيلة، وكأنما بذوره قد اشْتُقَّتْ من عطور جدتي القديمة الزاعقة. لقد زرت قبل أسبوعين مصانع سلاحنا وخرجت وكتبت مبهورًا، واليوم وأنا أرى إبداع قواتنا الكتابية يدق قلبي دقة عنيفة فَرْحةً ليتوقف بعدها ويقول فجأة: والله والله لن نهزم أبدًا، والله والله لن نموت أبدًا، ولن ندع الفساد والنصب الثقافي والعلمي أبدًا. حتمًا سيتوقف وسيتوقف كل الهاربين والمتهربين والمهربين الكذابين والأفاقين والعابثين الذين يعيثون في الأرض فسادًا، فإذا كنا نصنع السلام ونبدع مثل هذه الكلمة، وغدًا بإذن الله لا يدخل فمنا سوى خبزنا من أرضنا، خبزنا الحلال من أرضنا الحلال، فسَنَسحق — ولو كأطفال الضفة وغزة، بالحجارة وبالكلمة وبطيبتنا وبصدقنا — أعداءنا وكل قنابلهم الذرية والهيدروجينية وأكاذيبهم وادعاءاتهم وبطشهم الجبان ووجودهم الرعديد".
وأردف ذاكرًا فضل العميد على الثقافة المصرية: "نم مستريحًا يا طه حسين؛ فلقد ساهمت في صنع كل هذا حين أطلقتها وقلتها: التعليم كالماء والهواء، كان لا بُدَّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يصيح فيه أحد تلاميذك قائلًا: أهمية أن نتثقف يا ناس، وكان لا بُدَّ أن يأتي اليوم العيد الذي يمضي صائحًا قائلًا: والثقافة أيضًا لا بُدَّ أن تكون كالتعليم كالماء كالهواء، كالخبز، حتى كالخبز المدعوم والخبز الآلي، لا بُدَّ أن يدعم، فخبزنا الثقافي عيبه أنه أصبح غاليًا تمامًا يا أستاذنا، والله يرحم أيامكم الحلوة حين كان الكتاب ككيلو اللحم بخمسة قروش".