غاب ولم يغب
في مايو 2017 وبعد تنبيه من عدد من أصدقائي عرفت إن فيه شاب اسمه "شريف" عمل فيديو فيه تقييمه لكتابي الجديد وقتها "آخر أيام نوفمبر".. قالولي إن الفيديو عمل مشاهدات كبيرة عنده على حسابه على فيسبوك، وإنه قايل كلام كويس عن الكتاب وعني وختم الفيديو بـ جملة: (تامر خلاّني نفسي أقعد أشرب معاه فنجان قهوة في يوم من الأيام).. الحقيقة إن دي كانت أول مرة حد يعمل ريفيو فيديو عن الكتاب غير إن الكتاب وقتها كان يعتبر لسه جديد لإننا بنتكلم عن كتاب صدر في فبراير وبعدها بـ أقل من 3 شهور "شريف" عمل الفيديو!.. شوفت الفيديو، وعجبني بس ولإني ماكنتش لاقي كلام مناسب يليق أرد بيه اتأخر ردي شوية بس بعد كذا ساعة قولت إن من حقه يعرف إني اتفرجت وانبسطت بكلامه.. شكرته في تعليق مختصر على بوست الفيديو.. رد عليا بشكل ودود زود خجلي.. حسيت إن الشكر في تعليق مش كفاية فطلبت رقمه.. اتكلمنا.. كان صوته نقي وبيشع مرح وإقبال على الحياة أو زى ما بتقول أمي في وصف اللي زيه: (واد لما تشوفه أو تسمعه يخطف حتة من روحك).. الطالب الجامعي المثقف والكاتب الصحفي صاحب الروح اللطيفة اللي دوبت المسافات بيننا في أول مكالمة قال فجأة: (والله الأرض مش سايعاني من الفرحة إننا بنتكلم بس عايز أطلب منك طلب ورحمة والدك ).. قالها بإلحاح صادق فقلت: (طبعًا أؤمرني يا شريف). قال: (تحققلي أمنيتي اللي في الفيديو ونشرب فنجان قهوة سوا).. رديت بسرعة، وبدون تفكير: (ياسلام!.. بس كده!.. طبعًا).. توالت الإتصالات بيننا على مدار 3 شهور وماحصلتش المقابلة للأسف.. مرة تتأجل بسببه ومرات كتير بسببي أنا.. 5 مكالمات عرفت منه كل أحلامه هو وعرف مني شوية من أحلامي أنا.. اتكلمنا في السفر، والأفلام، والأغاني، والشغل، والكتب.. اتكلمنا في كل وأى حاجة.. قربنا وكإننا اكتفينا بالمكالمات عن المقابلة!.. في أثناء المكالمة الرابعة كنت مصاب بحالة إحباط قاسية متعلقة بظروف شغل وكان واضح على صوتي فسألني بصوت قلقان: (مالك يا أستاذ خير؟).. رديت: (مفيش شوية كده ويروحوا لحالهم إدعيلي).. رد: (خليّها على الله مش هيحصل غير المكتوب والله ).. قالها وحاول يخرجني من حالتى بشوية نُكت قديمة.. النُكت نفسها ماضحكتنيش بس ضحكت على ضحكته هو الصافية، وختم المكالمة بجملة: (خلّى بالك أنا مش بنسى ولسه مستني قعدة القهوة اللي اتفقنا عليها).. أكدت عليه: (أكيد قريب جدًا إن شاء الله).. بعدها بشهرين وقبل عيد الأضحى بكام يوم كلمني.. افتكرت إنها مكالمة عشان يعيد عليا بس صوته هو اللي كان مُحبط وقتها وعلى غير العادة!.. سألته: (مالك يا ابني هو إحنا بنسلم بعض الكآبة ولا إيه أنا مرة وانت مرة!).. ضحكت وماضحكش!.. قال: (ضاقت أوي).. رديت: (إحكيلي طيب!).. قال بمرارة: (مفيش حاجة تتحكي وكل واحد فيه اللي مكفيه).. صممت.. رفض، وغيّر دفة الكلام في مواضيع تانية فرعية ماقدرش من خلالها يخبي رنة الحزن عنده.. احترمت رغبته في الصمت وخمنت إن فيه موضوع شخصي شاغله وهو سبب اللي هو فيه ده أو مجرد موجة ضيق مالهاش مبرر من اللي بتنهي في أرواحنا من وقت للتاني بسبب الضغوط.. (والنبي ما تنسى لما ظروفك تسمح نشرب قهوة مع بعض).. قالها بسرعة وأنهى المكالمة اللي كانت أقصر مكالمة بيننا.. وآخر مكالمة.. (إنتحار الكاتب الصحفى الشاب "شريف محمد قمر").. ماصدقتش عيني وأنا بقرا الخبر بعدها بأيام لكن ظني خاب بمجرد ما بصيت على حسابه على فيسبوك.. شريف مات!.. بالبساطة دي!.. وبيقولوا منتحر!.. شريف ماينتحرش!.. ينتحر إزاى وهو قبل وفاته بكام ساعة كان بيوزع مع قرايبه لحمة على المحتاجين في منطقته!.. إزاى وليه وإمتى!.. ماقابلتوش!.. ماشربناش قهوة زى ما اتفقنا!.. ربنا يلعن الظروف والوقت الضايع وكل الأسباب.. ماشغلتش بالي بطريقة وفاته اللي لما حصلت السوشيال ميديا كلها كانت بتتخانق عليها.. كل اللي كان هاممني إني خسرت صديق جدع اكتشفت جدعنته قبل ما أقابله وكنت متوقع إنه هيكون أجدع لو اتقابلنا.. اتعلمت كمان إني على قد ما أقدر ماخليش التأجيل هو اللي يحركني.. محدش ضامن عمره ولا عمر غيره.. ربنا يرحم "شريف قمر" صديقي الطيب النقي الذي لم أقابله.
● زمان جدًا من نحو 10 سنين والد صديقي "إيهاب ناصر" من محافظة أسيوط كان عنده سرطان في الكبد.. اتحجز في المستشفى بعد ما دخل في غيبوبة قبل وفاته مباشرةً.. كان بيقع في الغيبوبة ويفوق.. يقع ويفوق.. يقع ويفوق.. قبل التعب بفترة كان الأصل في علاقة "إيهاب" بأبوه إنها متوترة دايمًا.. الأب العنيف اللي شايف ابنه مستهتر ودايمًا يشخط فيه عَمّال على بطّال (أنت فاشل وعيل صايع وديني ما أنت نافع وابقى تعالى تِف على قبري لو فلحت).. والابن اللي على طول بيبرر عنف أبوه بأنه تناكة أبهات مالهاش أى مبرر (يا رب أغور من وشهم أنا قرفت منهم كلهم).. كتير كان "إيهاب" يقول لي: "أنا بكرهه".. الجملة كانت مقبضة بالنسبالي!.. إيه اللي عمله أب يخلّي ابنه قلبه يتملي بالكراهية تجاهه.. حتى مع نشوفية شخصية عمو "ناصر" اللي بيحكيلي عنها "إيهاب" ماكنتش قادر أستوعب إن ده مبرر.. أكيد في حاجة غلط.. طب أنت نفسك يا "إيهاب" بتعامله كويس؟.. بتنفذ كلامه ولا على طول بترد عليه؟.. بتقبل نصايحه ولا دايمًا رافضها؟.. ولإن محدش بيطلع نفسه غلطان لما بيحكيلك عن مشكلة بينه وبين غيره؛ كانت إجابات "إيهاب" كلها في صالحه هو نفسه.. سألته في مرة: امبارح كان العيد، حضنته؟.. رد بإستنكار كإني سألته عن حاجة عيب: حضنت مين!، لأ طبعًا مش هحضنه، هو إحنا بنتكلم أصلًا عشان نحضن بعض!.. طب ما تجرب!.. رفض.. رغم إني وقتها ماكنتش جربت مرارة فقد الأب اللي دوقتها بعد كده بـ 4 سنين بس كنت متأكد إن واحد في شخصية "إيهاب" اللي أنا عارف إنه طيب ده لو حصل هيكسره، وإن الجمودية اللي هو فيها حاليًا في علاقته بـ عمو "ناصر" جمودية مخبية وراها حنية اتدارت ورا كام لحظة شيطان أو رواسب خلافات كانت ممكن تتعدى.. فضل الوضع على ما هو عليه وحصل فجأة موضوع التعب الصحي لـ عمو "ناصر".. الدنيا اتدربكت في خلال كام ساعة بس والراجل اللي كان واقف على رجليه بقى في غيوبة بسبب انتشار السرطان في الكبد واكتشاف ده متأخر!.. كنت مسافر ولما رجعت رحت أزورهم في المستشفى وبصيت على عمو "ناصر" مع "إيهاب" من ورا إزاز باب العناية المركزة.. لما شفت شكله والأنابيب متعلقة في إيده كنت عارف إنه خلاص كلها مسألة وقت مش أكتر.. "إيهاب" قال لي: انت عارف إني عمري ما حضنت بابا!.. سكت شوية وكمل: خالص يعني.. ماقدرتش أرد.. كمل كلامه وهو باصص من الإزاز: (أنا بحبه ولو بتمنى حاجة واحدة بس من ربنا هتبقى إنه يقف على رجله تاني عشان أعرف أحضنه).. كنت شايف في عينيه تردد إنه عايز ياخد الخطوة لأول ولآخر مرة بس في المواقف اللي زي دي لساني بيتشل.. مشيت ورجعت تاني يوم لقيت مامته وأخته واقفين بره وهو جوه مع أبوه.. "إيهاب" كان بيكلم أبوه بس ماكناش سامعين أي صوت.. أبوه ماكنش بيتحرك فيه غير عينيه بس.. "إيهاب" مال على جسم أبوه بالراحة وحضنه.. ماشفتش تعبيرات وش أبوه بعدها بس شفت عين "إيهاب" وكإنه اتولد من جديد.. لما خرج وقعدنا شوية دون ما نتكلم في الموضوع وإحنا مروحين وهو سايق قالي: (عارف، انت صح، وكنت هخسر كتير أوي لو ماكنتش حضنته والله العظيم أنا لمحته بيضحك بعدها).. تاني يوم والده اتوفي كإنه كان مستني الحضن عشان يمشي!.. النهاردة "إيهاب" متجوز وعنده "معاذ" و"مي".. مش بيعمل حاجة غير إنه بيحضنهم في اليوم مش أقل من 50 مرة، وبيقلل مساحة الخلاف معاهم قدر الإمكان، وفي نفس الوقت بيزود مساحة الصداقة بينه وبينهم.. والسبب؟.. محدش ضامن عمره، ولا عمر غيره، ومفيش مبرر لتأخير أى حاجة حلوة.
● الداعية "أحمد الشقيري" قال: (إذا أردنا شيئًا أوجدنا له الوقت).. ماتعرفش الكلمة الحلوة الفلانية ممكن تعمل إيه في فلان لو اتقالت في وقت صح، أو الفعل العِلاني ممكن ينقذ مين من إيه أو يسيب فيه أثر شكله عامل إزاى.. إيه قيمة إنك تسكت في الوقت اللي لازم تتكلم فيه.. أو تقف مكانك في الوقت اللي المفروض تتحرك فيه!.. العُمر بيجري ومحدش ضامنه.. ماتنتظرش الوقت المناسب عشان تعمل كذا.. كل وقت حالي متاح ممكن يكون هو الوقت المناسب اللي انت منتظره.. الأديب "بهاء طاهر" قال: (هناك زهور لكل وقت وليس الربيع فقط).