إذا الشعب يومًا أراد الحياة | كواليس رحلة تهريب النطف من خلف أسوار الاحتلال إلى أرحام زوجات الأسرى
حاولوا دفننا ولم يعلموا أننا بذور، مثَل شعبي جرى إطلاقه في المكسيك ولكن الفلسطينيين جعلوه أمرًا واقعًا، الفلسطينيون يتحدون القضبان والجدران، يتحدون ظلم السجون والأحكام المؤبدة لينبتوا وينجبوا كأشجار الزيتون التي تشتهر بها فلسطين، وذلك من خلال النطف المحررة من داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، إذ يخضع الأسرى لأحكام يصل الكثير منها إلى ما يمكن وصفه بسجن مدى الحياة، مطبقين مقولة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: «إذا الشعب يوما أراد الحيَاة، فلا بد أن يستجيب القَـدر، ولا بـد لليـل أن ينجلــي، ولا بد للقَيد أن ينكسـر.
نطف تخرج بالتهريب لتعلن عن طفل جديد والده خلف القضبان، وأمه حرة، يزداد العدد وتبقى الإرادة الفلسطينية لتروي حياة جديدة من داخل ظلام الاحتلال الإسرائيلي، تحرير نطف منوية لأسرى بات خروجهم للحياة مرة أخرى صعب المنال، ليبحثوا عن طرق تهريب نطفهم، وتلقيح زوجاتهم بها، خاصة من يواجهون أحكامًا بالسجن المؤبد.
النطف الفلسطينية المحررة كانت أولى عملياتها الناجحة عندما تمكن الأسير عمار الزين، المأسور عام 1998، والمحكوم عليه بالسجن المؤبد 26 مرة، و25 عامًا بتهمة تنفيذ عمليات ضد المستوطنين الإسرائيليين، وذلك في أغسطس 2012، قبل أن يكرر الإنجاب النطف المحررة مرة أخرى عقب ذلك بوقت وجيز، ليعد الزين أول من تمكن من كسر كل حدود السجون الإسرائيلية، معلنًا عن طريقة جديدة لاستمرار النضال، والتي اعتبرها الكثير من الفلسطينيين فصلًا جديدًا من النضال ضد الاحتلال.
ولإتمامها بشكل ديني ومقبول في المجتمع الفلسطيني الشرقي، كانت العملية بحاجة إلى فتوى شرعية لإجرائها، فكانت في البداية بإجازتها لزوجات الأسرى الذي دخل بهن فقط «أي تم اعتقال زوجها عقب الزواج»، ثم أجيزت بعد ذلك لمن لم يدخل بهن، وتمت الإجازة الثانية بسبب زيادة المخاوف من عدم قدرة الأسرى وزوجاتهم على الإنجاب حال خروجهم بسبب تقدمهم في السن.
إلا أن القول الفصل جاء في أكتوبر من عام 2019، إذ أصدر الشيخ عكرمة صبري، خطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، فتوى تقضي بأنه لا مانع شرعًا من إجراء عملية للزوجة سواء كان مدخولًا بها أو لا، ولكن وفق شروط يجب أن تجتمع كلها، وهي وجود عقد الزواج، وموافقة الزوجة على العملية، وأن يكون الحيوان المنوي من الزوج والبويضة من الزوجة فقط، وأن يتم إجراء العملية في مركز معروف ومرخص له لإجراء هذا النوع من العمليات، إلى جانب اشتراط حضور شاهدين أحدهما من طرف الزوج والآخر من طرف الزوجة، وحضور محام من ذوي الثقات للتوثيق، ثم اشترط بعد ذلك إشهار العملية عبر وسائل الإعلام أو وسائل أخرى.
طفل يخرج من حذاء أخته
أم أسعد أبو صلاح، زوجة الأسير الفلسطيني فهمي أبو صلاح، من منطقة بيت حانون، حكم بسجنه لمدة 22 عامًا، من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تقول إنه تم أسر زوجها عقب إتمام عرسهما بعام واحد، وذلك في 18 مارس عام 2008، تاركًا لها طفلة عمرها 40 يومًا فقط، وبعد نجاح أولى عمليات تحرير النطف المهربة لجأت زوجة الأسير إلى محاولات للحصول على نطفة زوجها للتمكن من إنجاب أخ لطفلتها، قائلة: «بدى العلاقة بينا تضل مستمرة، لهيك فكرت بأخو لبنتى، أنا فخورة بابنى رافعة رأسي فيه».
وعن كيفية تحرير النطف تروي أنه يتم بعدة طرق، وإنها تمكنت من الحصول على نطفة ابنها عندما توجهت طفلتها وهي بعمر الـ 8 سنوات لزيارة والدها، إذ كان مسموحًا لها بالدخول إلى والدها في ذلك العمر، فسارع زوجها بوضع نطفته داخل «بوت» أي حذاء الطفلة خلال وجودها معه، ليتوجهوا بالنطفة عقب خروجها من السجن إلى المركز الذي سيتم داخله عملية الإخصاب، وحفظها في سائل النيتروجين.
وبعدما تتم عملية تجهيز النطفة، توجهت هي إلى المركز لإتمام عملية الإخصاب، بحضور والد زوجها ووالدته، ووالدها هي، مضيفة أن أول لقاء بين زوجها وطفله الذي أنجبه عبر نطفة محررة كانت في مارس 2016، قبل أن يكرر زيارة والده مرة أخرى في شهر يونيو من ذات العام، ليسعد الأسير بنجاحه في كسر جمود السجود الإسرائيلية وإنجابه طفلا من داخل ظلمات سجون الاحتلال.
قانونية تهريب النطف
الدكتور رأفت خليل حمدونة مدير عام بهيئة الأسرى الفلسطينية، ومدير دائرة القانون الدولي بالهيئة، وأحد الأسرى المحررين، يرى أنه في أعقاب القيود والممنوعات الإسرائيلية التي فرضها على الشعب الفلسطيني، والتخوفات الأمنية من قبل الأسرى لخيار «الخلوة الشرعية»، والمحاربة الإسرائيلية لأي خيارات بإخراج النطف والتلقيح الصناعي بطرق رسمية.
يضيف حمدونة، أن الأسرى بدأوا في التفكير بطرق إبداعية بديلة لتحقيق الإنجاب كحق إنساني منذ سنوات، فبرزت فكرة الإنجاب عن طريق «النطف المخزنة» وذلك باستخدام التطور العلمي وتوفير الشروط المطلوبة من إجازة شرعية، وتفهم عائلي، وتوفير احتضان عائلي لأسر الأسرى وزوجاتهم، وحماية أمنية وأخلاقية وضوابط من كل الجوانب، مؤكدًا أن النقاش المعمق للقضية داخل السجن وخارجه حظي بنسبة تأييد مشجعة.
ويضف مدير عام هيئة الأسرى الفلسطينية، أن عملية تحرير النطف تعد تحديًا لعنصرية الاحتلال وأحد الجوانب الإبداعية للأسرى مثلها مثل تحد التعليم أو الإضرابات المفتوحة عن الطعام وباقي الخطوات النضالية الأخرى ضد السجان، مشيرًا إلى أن تحرير النطف لم يعد مسألة زيادة التعداد السكاني مقارنة بالمستوطنين، ولكنها حالة إبداعية للأسرى وأحد أهم التحديات التي لم يسبق لها مثيل في حركات التحرر العالمية.
طفلي توفي وسعيت للإنجاب من خلف القضبان
أحمد رشاد السكني، أسير فلسطيني يقضي حكمًا بالسجن لمدة 27 عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تروي زوجته تفاصيل تمكنها من الإنجاب في ظل الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم الفلسطينية، وأسر تل أبيب لزوجها من 19 عامًا.
زوجة السكني، تضيف أنها بدأت في التفكير للحصول على طفل من خلال النطف المحررة بعد صدور حكم بالسجن 27 عامًا ضد زوجها الأسير، ووفاة طفلها الذي تركه زوجها لها إثر حادث سير، لتعيش أيامها وحيدة دون زوج أول طفل باحثة عن أمل يأتيها من خلف قضبان الاحتلال وقبضته المتشددة، قبل أن تحصل على نطفة محررة عقب إحدى الزيارات العائلية إلى زوجها، لتصل إليهم النطفة بقطاع غزة ويتوجهوا بها على الفور إلى مركز التخصيب.
تستكمل زوجة الأسير الفلسطيني أنه يتم إيصال النطفة وحفظها من خلال المتابعة مع مركز التخصيب، لتتم العملية فور الانتهاء من الإعدادات الطبية للنطفة وللزوجة، لتفاجأ بأنها حامل بطفلين توأم، هما معتز وسوار، متابعة بأن طفليها باتا حاليًا بعمر 6 سنوات ونصف، إلا أن والدهما لم يتمكن من رؤيتهما سوى عبر صور فوتوغرافية فقط، بسبب منع الزيارات عنه من قبل سلطة الاحتلال.
أول نطفة محررة في غزة
ويروي تامر خضر الزعانين، الأسير الفلسطيني المحرر، ووالد أول طفل أنجب من خلال النطف المحررة بقطاع غزة، أن فكرة الإنجاب من خلف جدران سجون الاحتلال بدأت من زوجته عقب قضائه خمس سنوات في سجون الاحتلال، خاصة أنه اعتقل عقب شهرين من زواجه.
الزعانين يضيف أن محكمة الاحتلال الإسرائيلي قضت ضده بالسجن لمدة 12 عامًا، وإنه بعد ولادة الطفل مهند ابن الأسير عمار الزين كأول سفير للحرية في فلسطين، كان هنالك تشجيع من الأهل والأصدقاء على تهريب نطفة، ليسعى إلى استشارة أهله بذلك، إلى جانب الأخذ برأي الشرع.
الأسير المحرر يستكمل بأنه تمكن من تحرير نطفته في مارس عام 2013، من سجن رامون الإسرائيلي، بشهادة كل من أبناء عمومته وإخوته وإخوة زوجته رامي ولؤي فريد الزعانين، الذين كانوا موجودين معه بالأسر داخل السجن الإسرائيلي، وتم إخراج النطفة ووصولها إلى غزة وفحصها، موضحًا أن المشرف على عملية زراعة النطفة كان الطبيب عبد الكريم الهنداوي، ليبدأ في إجراء العملية، قبل إنجاب زوجته لـ الحسن، أول طفل أنجب من خلال النطف المحررة بقطاع غزة، بتاريخ 10 يناير 2014.
يضيف الأسير المحرر تامر خضر الزعانين، أنه خرج من سجون الاحتلال 4 نوفمبر 2018، عقب قضائه فترة السجن، مبينًا أنه رأى طفله للمرة الأولى وهو بعمر عامين، وأن الهدف من عملية تحرير نطفته كان مواصلة النسل، معتبرًا ذلك بأنه نوع من أنواع المقاومة للسجان.
ويردف أن عملية التهريب تتم بطريقة معقدة ومشددة للغاية، حتى لا يتم اكتشافها من قبل السجان، مؤكدًا أنه يجب وجود شهود على إخراج النطفة، وأن هناك عدة محاولات باءت بالفشل، ومنها ما أمسك بها العدو وأتلفها وزجّ بأصحابها في زنازين العزل الانفرادي لمدة شهر تقريبًا.
ثورة إنسانية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية
مركز الأسرى للدراسات، يقول في دراسة له، إن ما يطلق على النطف المحررة تمثل جميعها مسميات تدل على أحدث معركة إنسانية مستجدة لصناعة الحياة، حكاية بدأت بفكرة، وانتهت بحقيقة رغم كل قيود الاحتلال، معركة اعتمدت على حرب الأدمغة بين الأسرى والسجان، قوامها التطلع للحياة بعين متفائلة، وأبطالها أناس مظلومون عزل امتلكوا سلاح الإرادة والصمود والأمل بالمستقبل، يفكرون ويخططون ويبتكرون ويبدعون، في وجه إدارة ظلامية تألقت في صناعة الموت، ورغم كل الممارسات والقيود والوسائل الأمنية أخفقت في كسر إرادة الأسرى وحرمانهم من حقوقهم الأساسية سيما الإنجاب وتحقيق غريزة الأبوة مثل باقي البشر.
ويتابع مركز الأسرى في دراسته أن ظاهرة تهريب النطف ارتفعت في وسط الأسرى الفلسطينيين المتزوجين، ومن أمضوا فترات طويلة، ومن ذوي الأحكام العالية، ممن حرموا تكوين أسر وإنجاب ذرية بسبب قيام الاحتلال الصهيوني باختطافهم واعتقالهم من بين أهلهم وذويهم وزوجاتهم، متابعًا أن الاحصائيات تشير أن 30- 40% من الأسرى في السجون، من بين المتزوجين، ما يعني هذا يعني أن العقوبة ستكون مضاعفة بحقه وبحق وزوجته، ما يجعل العقوبة تقع على الزوجة التي تشعر بالوحدة بسبب غياب الزوج لسنين طويلة، ما دفع عدد من الاسرى وذويهم إلى التفكير في القيام بتهريب نطفهم خارج السجن عبر طرق وأساليب لا تخطر على بال بشر، من أجل الحصول على ذرية، وتكوين أسر وبناء حياة عائلية رغم الغياب القصرى عن المجتمع.
الجندي الإسرائيلي يخرج النطفة ولا يعلم
صالح أيوب خضورة، أسير محرر من منطقة بيت لاهيا، قضى 14 عامًا في سجون الاحتلال إذ تمل اعتقاله عام 2005، قبل أن يتحرر من أسره عام 2019.
يروي خضور قصة نضاله بأنه تمكن من إنجاب طفلين توأم آدم وكرم، وذلك من خلال نطفة له تمكن من إياصلها غلى زوجته عام 2013، من خلال وضعها بشنطة شفافة « كيس نايلون شفاف» ووضعها في شنطقة أخرى عليها اسمه، ثم خبأها بكيس شيبسي آخر وأحكم إغلاقه، قبل أن يرسله ضمن ملابسه متعلقاته إلى زوجته عبر أولاده خلال إحدى الزيارات.
ويوقل الأسير المحرر صالح خضورة، أنه أثنماء الزيارة حضر إليه أحد الجنود الإسرائيليين وأخذ متعلقاته وهو لا يعمل بوجود النطفة بداخلها، وأخرجها للزائرة التي كانت تعلم أن عليها الاحتفاظ بالعينة بـ «جيبها» حتى تبقى بنفس حرارة الجسم.
لتتمكن الزائرة من إيصال النطفة وتسليمها إلى زوجته بعد 3 ساعات فقط من الزيارة، على حاجز أيرز بقطاع غزة، مقر وجود زوجته في انتظار النطفة، موضحًا أنه شاهد طفليه لأول مرة عقب عام من ولادتهما.
ويوضح أنه بعد علم إدارة السجن الذي كان يقضي به فترة أسره، بعمليات التهريب، منعت إخراج متعلقات الأسرى إلى ذويهم إلا من خلال إدارة السجون، إلا أن أسرى آخرين تمكنوا من تحرير نطفهم وتهريبها بطرق أخرى لمواصلة إنجاب أطفالهم من خلف جدران سجون الاحتلال الإسرائيلي رغم جميع التشديدات الأمنية.