محمد توفيق يكتب: يحدثُ في مصر.. فضيلة مُزيفَة وجعجعة بلا طحن!
أسمعُ جعجعةً ولا أرى طحنا !.. هذا المثل العربي القديم، ينطبق على الحالة التي نمرُّ بها في الوطن العربي عمومًا وفي مصر على وجه الخصوص، فالمَثل يشير إلى كثير الصَّخَب بلا فائدة، ويدل على المجتمع الذي تنحصر قوته في الضجة التي يثيرها الغوغاء بلا إنجاز حقيقي، إذ تغيب الأفعال المؤثرة ويحل محلها الهرج والمرج والكلام الفارغ من المضمون.
الجعجعة بلا طحن تشير أيضًا إلى الفضيلة المزيفة، والتدين الشكلي والأخلاق الوهمية، التي أصبحت سمة لأمة هشة يحركها فيلم سينمائي فتقوم عليه ضجة هائلة، وتثيرها رقصة امرأة حرة في رحلة نيلية، وتقوم الدنيا ولا تقعد على امرأة كشفت عن نهديها في مهرجان فني، وأخرى خلعت لباسها الداخلي في مشهد تمثيلي، وما بين هذا وذاك تغيب الهموم الحقيقية للمجتمع المصري الذي يعيش نحو 45 % من أبنائه تحت خط الفقر، ولا تُقَدَّم لهم الرعاية الصحية المطلوبة ولا التعليم الجيد المُبتغى، ويتخرج ملايين الشباب في الجامعات لينضموا إلى طوابير البطالة ولو دققتَ لاكتشفتَ أنَّ " نسبة كبيرة من هؤلاء الخريجين لا تجيد القراءة والكتابة".
وبينما تغيب كل هذه القضايا الجادة والآلام المزمنة عن الاهتمام الرسمي والشعبي يقدم خمسة نواب في البرلمان المصري طلبات إحاطة لوقف عرض فيلم " أصحاب ولا أعز" والذي أثار ضجة هائلة مؤخرًا، " وهمُ النواب الصامتون عن هموم ناخبيهم ومعاناتهم اليومية"، وقبلهم سارع قياديو وزارة التربية والتعليم إلى فتح تحقيق موسع مع المعلمة التي ضُبطت بالجرم المشهود وهي ترقص في رحلة، بعد أن انتشر مقطع فيديو يصور بهجتها رفقة زملائها وأسرهم، والغريب والمدهش في الأمر أن الوزارة المسؤولة عن الشأن التعليمي لم تول اهتمامًا يُذكر بالفصول المُكدسة بالتلاميذ، ولم تتحرك لمعالجة النقص الحاد في المعلمين، بينما فزعت وهرعت وتحركت سريعًا إثر رقصة امرأة حرة مسؤولة عن تصرفاتها.
وتمتد الغرابة إلى الشعب نفسه، فلا هو اهتم بغرق 24 طفلًا في النيل " لم يكونوا في نزهة نيلية بل كانوا في طريقهم للعمل بمزرعة دواجن لإطعام أسرهم المعوزة"، ولا اهتم بالمخدرات المنتشرة بين الشباب والمراهقين، ولا معدلات السرطان التي ارتفعت في مصر بنسبة 11 % خلال السنوات الخمس الأخيرة وفق اللجنة القومية للأورام، ولا مرضى الفشل الكلوي والذين بلغ عددهم 2.5 مليون مصري في عام 2020 -وفق إحصائية الجمعية المصرية للكلى-، ولا بغلاء الأسعار ولا البطالة التي تصعد بمعدل 10 % سنويًا، لم يهتم السواد الأعظم من الشعب بكل هذه القضايا والمشكلات المفصلية، في وقت أصبحت فيه رقصة امرأة وخلع ممثلة "للأندر" هما الشغل الشاغل للمدافعين عن الفضيلة وملاك الحقيقة المطلقة ومدعي الأخلاق الوهمية.
وتتوالى المفارقات التي تكشفها الأرقام، فوفق تقرير رسمي لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء "صدر في يوليو 2021، بلغ معدل استخدام الانترنت في مصر مطلع العام الماضي أكثر من 59 %، وارتفع متوسط الاستخدام الفردي للشبكة العنكبوتية إلى 7 ساعات يوميًا، نصفها عبر الهاتف، وتحتل مصر المركز التاسع عالميًا في الوصول إلى إعلانات فيسبوك، وال 15 عالميًا في وصول إعلانات يوتيوب، وال 18 عالميًا في استخدام إعلانات تويتر، " وهنا يُلاحظ التناقض بين شعب يعيش نحو نصفه تحت خط الفقر وبين التواجد الكبير عبر وسائل التواصل، والتي يستغلها أغلب المستخدمين في قضايا هامشية وإثارة البلبلة والمناقشات السطحية".
ما يحدث في مصر لا يليق بتاريخها
هذا الشعب المتدين بطبعه، والمدافع عن الفضيلة والقيم الدينية –شكلا- والذي يثير كثيرون منه جدلًا حول تهنئة الأقباط بأعيادهم –على سبيل المثال-، هو نفسه الذي كشف الموقع الشهير جوجل" أن 40% من عمليات بحث المصريين تذهب إلى الأفلام والمشاهد الإباحية، وسجلت خلال العام 2020 أكثر من 3 ملايين عملية بحث يوميًا عن كلمات" أفلام جنس"، مشاهد إباحية، قبلات وأحضان.. " مقابل 10 آلاف عملية بحث يوميًا عن المعلومات الثقافية والعلمية والأخبار السياسية والكتب والوثائق.!
وفي السياق ذاته، كشف موقع PORN MD "المتخصص في البحث عن الأفلام الإباحية" أن شعوب الدول العربية والإسلامية في صدارة البحث عن الجنس، وجاء المصريون في المركز الثاني عالميًا في مشاهدة أفلام البورنو الصريح.
بقي أن أقول: إن ما يحدث في مصر حاليًا من تناقضات وعبث وثرثرة فارغة، لا يليق بأمة ذات موروث حضاري، ولا يجب أن يمر هذا الضجيج الذي ربما يكون مقصودًا وموجهًا- مرور الكرام، فتسطيح الوعي يُغيّب أي مشروع للنهضة، وإلهاء الناس بتوافه الأمور يبعدهم عن الثقافة الجادة، ويخلق منهم شخصيات مشوهة، تحكمها الفضيلة المزيفة والبطولات الوهمية، وهنا يمتلىء الفضاء العام بجعجعة بلا طحن، ونظل ندور في حلقة مُفرغة!.
محمد توفيق في سطور
جدير بالذكر أن محمد عبدالحميد توفيق، هو شاعر وناقد مصري مقيم في الكويت، كما يعمل صحفي في جريدة القبس الكويتية، صدرت له مجموعات شعرية بالفصحى هي: هندسة الأوجاع، سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت، وحده الشجر العارف بالسر، تحصدني بدمعتها السنابل، لهيب العسل، طائرتي الورقية" ديوان فصحى للأطفال".
حصل على العديد من الجوائز منها: جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية / شعر الفصحى مرتين/ شعر العامية مرة، جائزة مجلة ماد الإماراتية / شعر الأطفال، وجائزة مسابقة الابن البار / شعر الفصحى، وجائزة دبي الثقافية / شعر الفصحى.