الصيام في الشرائع السماوية.. أهداف وضوابط وقراءات (2-2)
أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٍۢ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍۢ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍۢ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥ ۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
أنزل الحق مُحكم آياته مفصلة وموضحة لضوابط وكيفية أداء العبادات، أو أتمها النبي وحيا من لدن رب العالمين، أو سلكت مسلكها مع مصادر التشريع المختلفة وربما أخرجت آراء متعددة كان الخلاف فيها رحمة للسائلين والحائرين، فكما نعرف فإن السنة في قدر غير قليل فسرت الحكم العام كالصيام وأحواله، وقدر الله مواقف حضرها النبي وعلم منها الصحابة وسن فيها الحكم والتشريع الواجب اتباعه.
وربما يعرف أغلبنا أن الصيام شأنه شأن الصلاة، في التمهيد له وإيجابه على المسلمين على مراحل، فكانت الصلاة بادئ الأمر يتحدث فيها المصلي -بغير الذكر- جوازًا، ويرد السلام على من يلقيه وهو في صلاته مثلا، إلى أن نُسخ الحكم بحديث للنبي قال فيه "إن في الصلاة شُغلا" أي عمل أهم عما سواه، ونسخه أيضا النبي بفعله -الامتناع عن رد السلام على الصحابة كما اعتادوا- لتبقى في هيئتها الحالية محفوظة بعناية الله؛ كون هَدي النبي ذكرٌ محفوظ كما وعد الحق.
أما الصيامُ فسلك المسلك ذاته وقدر الله فرضه على مراحلة أو أكثر -كما الحال أيضا مع تحريم الخمر نظرًا لتعلق المجتمع العربي بها آنذاك وقضية الرِّق كذلك- فتحدث الأولون والمفسرون على أنه كان في بادئ الأمر تطوعًا وليس إلزامًا، والآية بصدر المقال الحالي نُسخت بقوله تعالي في الآيتين من سورة البقرة:183-185 "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقوله "كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
وربما يَتبدى للقارئ الكريم في السرد السابق غايات وأهداف اتفقت عليها الشرائع الثلاث منها:
أن الغاية من الصيام والهدف -بعد الامتثال لأمر الله وهو الهدف الأهم في حد ذاته- تكمن في التُّقى وتهذيب النفس وتربيتها وتحجيمها، فالفطرة الإنسانية عندنا حب الدنيا والمال والأكل والشرب وسائر الملذات، ووجب تقويمها وتهذيبها لأن ذاك هو الفرق الوحيد بين بني آدم والدواب -أعزكم الله- فإما تتحكم فيها وإما تحكمت بك وسَاقتك.
ووضح ذلك في قوله تعالى "لعلكم تتقون" ولعل كما تعرفون حضراتكم أن "لعل" من أفعال الرجاء والشِّروع، ووضح في اليهودية بالتوراة: "وكان -أي: موسى عليه السلام- هناك عند الرّبّ أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا، ولم يشرب ماءً" سفر الخروج 34:28.
فهيأ الحق موسى للقائه وتلقي الألواح بالصيام وعلمه كيفيته -الصعبة بل والمستحيلة بالنظر للوقت الحالي (40 يومًا)- ويشبه المبدأ ذاته في الإسلام (التخلية القلبية) أو (التخلية قبل التحلية) وهو توضيح لضرورة تأهيل النفس قبل أن يهم المرء بعبادة أو عمل عظيم أو فعل تشريعي، وربما أتناوله سريعا في المقالات المقبلة بتوسّع.
وفي المسيحية ورد في الإنجيل: "قَدِّسُوا صَوْمًا. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ. اجْمَعُوا الشُّيُوخَ، جَمِيعَ سُكَّانِ الأَرْضِ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ وَاصْرُخُوا إِلَى الرَّبِّ" سفر يوئيل 1: 14.
فعلّم المسيح عليه السلام تلاميذه أن الصيام مفتاح الاستجابة، وتمهيد لقصد سؤال المَولى، وهو هنا يشبه توجيه النبي بالدعاء وقت الإفطار أو خلال الصيام، كونه من الأوقات المستجاب فيها، وإن كان توجيه النبي أشمل وأعم وأوضح لعدة اعتبارات لا يتسع المجال لذكرها.
أما الاختلاف الجوهري فهو أن الإسلام كما نوهت سلفًا فرض العبادة على مراحل بالترغيب أولا، والتوضيح تاليا، وببيان الحكمة من التحريم أو الفرض كلٌ على حدة، بينما جاء الصوم على سبيل المثال في الديانتين اليهودية والمسيحية واضحًا مباشرًا بأمر واضح، والكيفية والآلية والشرح فيه محصورة بين النَّبييَن أو تابعين عددهم معروف، بينما يظل مصدرَا التشريع مثلا (الإجماع والعُرف) مثلا مصدرين لاستخراج أحكام الصيام واستنباطها إلى الآن.