الجيوش متعددة الولاءات وشرعنة التطرف
لا شك أن منطقة الشرق الأوسط تعيش منذ فترة طويلة بعد الغزو الأمريكي للعراق مرحلة مغايرة عما سبقها بلغت ذروتها في العام 2011، الأمر الذي أدى لسقوط العديد من الأنظمة في الدول العربية، تلتها صعود تيارات الإسلام السياسي في المنطقة وصولا لسقوطهم مرة أخرى في العديد من الدول بداية من مصر.
مع إسقاط جماعة الإخوان في مصر تحدث الكثيرون عن إحباط مخطط تفتيت الشرق الأوسط، أو ما عرف اصطلاحا بـ"الشرق الأوسط الجديد"، لكن هذا القول يحتاج للتمهل وإعادة النظر في العديد من الأوضاع الراهنة والتي تدور في العديد من الدول، ومنها على ليبيا واليمن ويمكن القياس على العراق في هذا الشأن.
ما بعد 2011 وجدت السلطات الجديدة في بعض الدول مثل ليبيا واليمن نفسها أمام أزمة الميليشيات والكتائب التي تكونت إثر سقوط الأنظمة وإحلال وانهيار الجيوش بمساعدة قوى خارجية، وكبلت حيال مقترحات مثل نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج ومحاولة استيعاب المجموعات المسلحة من أجل وقف الاقتتال الداخلي والحفاظ على "الأمن الهش" من خلال إضفاء الطابع الرسمي على هذه الأجسام التي تجعل من المؤسسة العسكرية أو الأمنية مؤسسة هشة طوال الوقت، كونها تظل رهينة للمناطقية والجهوية وولاء بعض القيادات والأفراد للخارج، وغالبا ما تكون المؤسسة حال نجاح توحيدها هي مؤسسة هجينة متعددة الولاءات والأقطاب.
في ليبيا على سبيل المثال وبعد أن فشلت القوى الداعمة للتطرف بإبقاء جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة وداعش على رأس المشهد في ليبيا، اتجهت مباشرة نحو السيناريو الآخر والذي يقوم على "شرعنة التطرف" وهي عملية تتم عبر مراحلة عدة منها غض الطرف عن الجماعات المتطرفة وحتى الإرهابية منها وتقديم الدعم لها في بعض الأحيان.
المرحلة الثانية هي أن تصبح هذه الجماعات أحد الأطراف المسيطرة على مساحة جغرافية بقوة السلاح ومن ثم إدخالها للمشهد السياسي عبر الحوار مع قادتها ودفعها للاصطفاف وراء أحد الوجوه أو الأطراف السياسية، وفي هذه الحالة يكون الخيار الوحيد أمام عملية حل الأزمة السياسية هو توحيد المؤسسة العسكرية، وهنا نجد شرعنة التطرف بصورة فجة تؤكد استمرار سيناريو الفوضى عبر أدوات جديدة.
الإشكالية الكبرى أن عملية الدمج أو التسريح غالبا لا تتم وفق المعايير الواجبة والتي اشترطها الجيش الليبي على سبيل المثال بحيث تكون بشكل فردي، وعلى الأغلب لن تقبل لأن كل مجموعة أو كتيبة تخشى تسليم أسلحتها أو حل نفسها، وترى أن قوتها في الإبقاء على هيكلها كما هو والانضمام به، في مشهد شبيه بالحشد الشعبي في العراق، رغم مشاركته في الحرب داعش إلا أنه يظل أحد الأجسام العسكرية التي يمكنها اتخاذ مواقف مغايرة أو ليست منسجمة مع الجيش على سبيل المثال، كما هو الأمر بالنسبة للأجسام العسكرية الأخرى، مع مراعاة أن الحالة في العراق نضجت بشكل أكبر وتقاربت إلى حد كبير.
في ليبيا واليمن تدفع الجهود الأممية لدمج الميليشيات بما فيها العناصر المطلوبة على ذمة قضايا إرهابية، ومن عملوا في التجارة بالبشر وتهريب النفط.
المشهد في اليمن لا يختلف كثيرا، إذا أبقت واشنطن على ملف "الحوثي" من أجل الضغط على الرياض لتحقيق مصالح بعينها، وعادت الآن للعمل بنفس الآلية المتبعة.
المؤسف في الأمر أن ما يسمى بـ"المجتمع الدولي" يحاول إقناع السلطة والشعب في هذه البلدان أنه الحل الأمثل، رغم أن هذه الجيوش ستكون متعددة الولاءات والأقطاب وبينها أفرادها مجموعات من الإرهابيين وتجار البشر والمرتزقة.
حتى الآن تؤكد التجارب والملفات المشتعلة أن عمليات نزع السلاح تواجه إشكاليات كبرى وتعقيدات متعددة منها ما هو مرتبط بالولاءات للخارج والأموال السخية التي تنفق على هذه الأجسام، وبين السيطرة الجغرافية والسلطة المحدودة التي يمارسها كل قائد ميليشيا أو كتيبة خارج سلطة الدولة.
المؤسف أيضا أن التكتلات التي تدخلت لهدم سلطة دولة كما حدث في ليبيا لا تُسهم بالقدر الأمثل في حل الأزمة، على سبيل المثال اقترحت الأمم المتحدة في العام 2012 تشكيل هيكل شبيه بالحرس الوطني سُمّي "جيش ليبيا المدني"، يشكل من الثوار، وحتى الآن نحن في العام 2022، لم تستطع الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن المساهمة في حل المعضلة الأمنية في الداخل الليبي ولا في اليمن.
الأجسام المسلحة
المشهد المشابه أيضا يسير نحو الاتجاه ذاته في تشاد، عبر الحوار مع الأجسام المسلحة منها المعارضة ومنها المتطرفة، وتدفع الأطراف الدولية أيضا نحو دمج هذه الكتائب والحركات في القوات المسلحة، بما يخلق نفس الإشكالية، حتى وإن كانت بعض التيارات السياسية هناك تعارض فكرة الوجود الفرنسي، إلا أن عمليات الدمج بنفس الآلية لن تحقق سوى عملية "المؤسسة الهجينة"، التي تجعل من الدولة هشة وبيئة رخوة.
قد تكون هناك أمثلة سابقة لعمليات دمج الميليشيات كما بعد الحرب الأهلية الأميركية، ومع الجيش المدني البريطاني، ومع الحرس الوطني الدنماركي، لكن الاستشهاد بهذه النماذج مضلل إلى حد كبير، خاصة أن الحالة في المنطقة العربية مغايرة، إذ ترتبط الجماعات والمليشيات بولاءات وعمليات تمويل خارجي، وهو ما يجعلها رهينة ( تعدد الولاءات) ومعها يسقط الهدف الرئيسي للجيوش النظامية وهو الولاء للوطن والحفاظ على سيادته.
الخلاصة أن الجيوش متعددة الأقطاب أو الولاءات، والتشكيلات العسكرية الهجينة لا يمكنها أن تحافظ على استقرار الدول ولا يمكن التعويل عليها في بناء مؤسسة عسكرية وطنية، بل ستظل رهينة لما يسمى بـ"المجتمع الدولي" والأطراف الخارجية التي تستعمل هذه التكتلات لفرض شروطها اليوم وغدا لتحقيق مصالحها وأهدافها التي تختلف كليا عن المصالح الوطنية.