دقيقة في عالم الجن | بين تكذيب الواقع ورعب الوقائع.. أين تختبئ حقيقة الجاثوم؟
ألقت بجسدها المنهك على السرير بعد يوم عمل طويل، النوم يداعب جفنيها بأناملٍ حنونة، وعقلها شامخ يأبى الرضوخ، الضوءُ الخافت من حولها حَكمٌ مرتشٍ، قضى بفوز النوم، فاستسلم الجسد لدقائق لسبات ظنه عميق، قبل أن يطرق الندم بابه؛ جراء هذا التسليم.
زيارة الجاثوم
بعينين مغلقتين وعرق يفيض على وسادتها، تشعر به يتقدم إليها رويدً رويدًا، قاطعًا الطريق إلى سريرها، وبثقل أطنانٍ يجثم على صدرها فيحجبها عن بقية العالم، لا شعور لها إلا بقيود تكبل أطرافها، وزفير حار يلفحُ وجهها دون رحمة، يُنبئانها بوجود من هو متعطش لإيذائها، يضمها بقوة تكاد تهشم عظامها.
حرارة النفَسِ تزداد اقترابًا؛ فترفض توجيه بصرها نحو مصدره؛ خشية أن تقع عيناها على ما تكره رؤيته، فيما يكاد صوت دقات قلبها المرتعب يصم أذنيها عن سماع ما عداه، حتى عن تلك الزمجرة التي يطلقها هذا الكائن الغريب، حتى جاء الفرج أخيرًا في صورة نداءٍ مهزوزٍ متوترٍ: "آلاء.. إنتِ كويسة؟!"؛ ليزول معه كل شيء.
لم تكن هذه المرة الأولى التي عاشت فيها آلاء إبراهيم البالغة من العمر 30 عامًا، هذا الموقف، حيث قالت لـ القاهرة 24 إنها عانت كثيرا من هذا الأمر، مضيفة أنها توقن بأن هناك أحد من عالم الجن يقصد زيارتها شخصيًا، خاصة أنها كانت تلاحظ بعض الآلام في أجزاء من جسدها بعد استيقاظها؛ ولا تزال الفتاة تبحث عن علاج لهذ الأمر.
هجوم الجاثوم
الجاثوم يحب الهجوم.. هذا الوصف الأكثر شيوعًا بين معظم من اختبروا رعب الجاثوم، وهو ما اتفق معه سمارة. ب، 18 عامًا، بعد تكرار زيارات كائن غامض له.
فبين شلل أطراف سمارة، واستيعاب عينيه لكل ما يدور حوله، اعتاد الصبي استشعار كائنٍ غريبٍ ومفزعٍ يقترب منه ببطء شديد، فيما تتسع عيناه رهبةً مما ترى، وكأنهما تحاولان الصراخ؛ استعاضةً عن لسانه المكبل داخل فمه، في الوقت الذي تتمرد فيه كل جوارحه، رافضةً الاستجابة لأي تحفيز طبيعي من المخ؛ تستطيع من خلاله دفع هذا الضرر المقبل عليها، عازفًا سيمفونية "لينينجراد"، سابع سيمفونيات ديمتري شوستاكوفيتش، والتي تنتهي بـ"اليغرو نو تروبو"، معبرةً عن استعادة الصبي سيطرته على جسده مرة أخرى، واختفاء الكائن المرعب، بعدما كاد يمسك برقبته منهيًا حياته في مشهدٍ دراميِّ مفزع.
سمارة قال لـ القاهرة 24، إنه في المرات الأولى التي اختبر فيها هذه الحالة، اعتقد أنه فرد من الجن يأتي لزيارته، بل إنه ظن لبعض الوقت أن هذا نوع من أنواع السحر قد أصابه، وأحيانا اعتقد أنه أصيب بمرض نفسي.
تجسد الأرواح
وبين اليقين بأن زيارة الجاثوم تعني حضور الجن، والترنح بين كونه جنيّ أو عامل نفسي، هناك من دفعه يقينه بالله منذ اللحظة الأولى، إلى الإيمان بأن الجاثوم ما هو إلا ضريبة يدفعها العقل نتيجة إدمانه الاكتئاب وتعاطيه المهدئات.
ففي المدينة الجامعية لجامعة الأزهر بالقاهرة، يمكنك هنا تصديق أن للأرواح القدرة على التجسد مرة أخرى في صور لا تشبه مسكنها الأول، فهذا صوت قيثارة السماء محمد رفعت يتسلل إلى أذنيك فجأة، تظن أن أحدهم يستمع إلى مقطع مسجل، قبل أن تُذهل مما رصدته عيناك في زاوية الطرقة هناك بين الغُرف، إنه شابٌ يأتي بطبقات صوته في تمَكن، يجاريه آخر في زاوية معاكسةٍ، بصوت المنشاوي، وثالث يحاكي الحصري، في أجواء تملأها الملائكة، وتخشاها الشياطين وذويهم.
وسط هذه الروحانيات، أحكمت السلاسل عصرها لجسد محمد إبراهيم، 23 عامًا، والتقطت أذناه ما تتجاهلانه عادةً؛ فامتلأ المكان بأصوات همسات الرعب التي استطاع تمييز حروف اسمه من بينها، وعمّ الصفير المكان مختلطا بهمهمات تُردد: "محمد، محمد"، ممزوجة مع زنّ النحل، حين بدأت الرؤية في التعتيم، العقل حاضر، واللسان خائن، آثر الخَرَس؛ وكلما حاول الشاب المقاومة؛ زادت السلاسل عقدها، حتى تستكين بإرهاقه واستسلامه لها، وهنا.. يختفي كل شيء.
محمد حكى لـ القاهرة 24، أن أول تفكير حلّ في رأسه بعد اختبار هذه الحالة للمرة الأولى، هو كون ما شعر به وسمعه، هم مجموعة من الجن أقاموا حفلًا على شرف إرعابه وإيذاءه، إلا أنه سرعان ما استبعد هذه الفكرة؛ نظرًا لأنه قريب من الله تعالى.
ماذا يرى هؤلاء؟
خطوات ومحاولات قطعتها الحالات الثلاثة سابقو الذكر، وغيرهم الكثيرون ممن كشفوا لـ القاهرة 24، معاناتهم مع زوارٍ مرعبين من عالم آخر _أو هكذا ظن معظمهم_ وبين ثنيات الرؤية أو السمع أو الشعور المصاحبين للشلل، تمتلأ الوقائع بما يُخشى البوح به؛ نظرًا لتكذيب الواقع والعلم لما يُروى.
القاهرة 24، انطلق في رحلة بحثية، محاولا كشف طبيعة ما يمر به هؤلاء الأشخاص، جامعًا العلمَ والدينَ على طاولة واحدةٍ؛ للوصول لحقيقة الجاثوم؛ ليجيب على سؤالين هامين: "ماذا يرى هؤلاء؟"، و"هل ينكر العلم وجود الماورائيات التي يؤمن بها الدين بشدة؟".
الجاثوم قاتل خفيّ
امتلأت الدراما الغربية بما يغرس في أذهان المشاهدين، فكرة كون الجاثوم روح شريرة تقتل ضحاياها بأبشع الطرق دون رحمة، حتى إن بعض هذه الأفلام ادّعت أنها قائمة على قصص حقيقية، لعل أشهرها فيلم: The nightmare (2015)، وهو ما يعكس أن الاعتقاد حول كون الجاثوم فردًا من عالم آخر، لا يقتصر فقط على العرب أو الشرقيين أو المسلمين فحسب، فيما لم تناقش الدراما المصرية فكرة الجاثوم كثيرًا، إلا حديثًا، في سلسلة ما وراء الطبيعة، للدكتور أحمد خالد توفيق، والتي تُرجمت مؤخرًا إلى عملٍ تلفزيوني، حمل نفس الاعتقاد الذي صورته الأفلام الأمريكية.
الجاثوم من منظور علم النفس
الدكتور جمال فرويز، استشاري الصحة النفسية، قال إن الجاثوم، والمعروف علميا باسم: شلل النوم (Sleep Paralysis أو Sleep atonia)، هو الحالة التي تصيب الإنسان في مرحلة من مراحل النوم، تكون عضلات الجسم خلالها مرتخاه كالمياه، باستثناء عضلات العين والمخ، وفيها يستطيع الإنسان الرؤية بشكل واضح إلا أنه لا يستطيع تحريك جسمه مطلقًا.
وأضاف استشاري الصحة النفسية لـ القاهرة 24، أن هذه الحالة قد تكون وراثية عادة، منوهًا بأن حالة الجاثوم السابق وصفها، قد يصحبها هلاوس سمعية أو بصرية فيرى الشخص بعض الأشياء المخيفة التي تحاول إيذاءه، ويسمع بعض الأصوات المرعبة كذلك، مشيرًا إلى أن هذه الأصوات التي يسمعها قد تكون حقيقية محيطة به بالفعل، ولكنه يتجاهلها عادة، وقد لا تصحبها هلاوس من الأساس، فيشعر الفرد بالشلل فقط لبعض الوقت ثم يعود إلى حالته الطبيعية، لافتا إلى أن هذه الحالة فسيولوجية لا علاج لها، مؤكدًا أنه يخبر مرضاه الذين يعانون من الجاثوم أن الأمر غير مقلق، ولا دواء له.
وتابع استشاري الصحة النفسية، أنه غالبا ما تزداد فرصة تعرض الشخص للجاثوم إذا كان مستلقيًا على ظهره، وفقًا لما افترضته بعض النظريات، منوهًا بأنها لا تستغرق سوى ثوانٍ، وعلى الشخص أن يستسلم لها حتى تمر.
لماذا وصف علم النفس الجاثوم بالهلوسة دون اعتبار لروايات من عاينوه؟
السؤال السابق، وُجه إلى الدكتور جمال فرويز، والذي أجاب عنه قائلًا إن اعتبار الجاثوم جان يقصد إيذاء الشخص، فكرة منتشرة فقط في معظم الدول العربية وبعض الدول شرق أوروبا، وتحديدًا بين السنيين، وليست اعتقادًا يجزم به كل سكان الأرض، وهي إجابة حيادية، لم تفسر أيضا لماذا وصف علم النفس الجاثوم بالهلوسة دونما اعتبارٍ لروايات من عاينوه.
وقال الدكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، لـ القاهرة 24 إن الجاثوم هو الحالة الأكثر شيوعا ضمن اضطرابات النوم، فهو يحدث للشخص أثناء الاستيقاظ من النوم فجأة، ويصاب خلالها بهلاوس سمعية وبصرية، مؤكدا أنها حالة طبيعية تماما، يصاب بها من 8% إلى 50% من البشر على مستوى العالم في إحدى فترات حياتهم، ويعاني منها 5 % من سكان العالم بشكل مزمن، وذلك بالتساوي بين الذكور والإناث.
أسباب الجاثوم طبقا لعلم النفس
أوضح هندي، أن من أسباب اختبار الإنسان للجاثوم، النوم القهري، نوبة الصرع الارتخائية، نقص البوتاسيوم في الدم، عوامل وراثية، النقص الحاد في عدد ساعات النوم، اضطراب ثنائي القطب، النوم على الظهر، تناول عقاقير الهلوسة وتحديدًا الترامادول، التغير المفاجئ في الحياة، العقاقير المنومة، التوقف المفاجئ عن تناول أدوية معينة، ونقص الأكسجين في المخ.
هل ينكر العلم وجود الماورائيات؟
قال هندي خلال رده على السؤال السابق، إن العلم يرى أن الإنسان لا قدرة له على رؤية الجن مطلقا، وأن كل ما يحدث للإنسان من هذه الأمور هي مجرد هلاوس حتى لو اختلفت في وصفها عما حدده العلم من وصف الجاثوم، وبوصف أدق، فإن العلم يؤمن بالماورائيات، ولكنه يكفر بقدرتها على التدخل في حياة الشخص، أو استطاعة الإنسان أن يراها بأي حال من الأحوال.
الجاثوم بعين الدين
قال الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إنه عادة ما يستقبل الكثير من الاستفسارات بشأن حقيقة الجاثوم، مبينًا أنه يؤمن بأن أمر الجاثوم قد يكون روحاني بعض الشيء، إلا أنه لا يتعلق بالضرورة بكونه أحد أفراد الجان يزور الإنسان ويقصد إرهابه، مضيفا أن الجاثوم أذى، يمس الإنسان، ويمكن إزالته بذكر الله، والنوم على طهارة، ذاكرا أنه دائما ما ينصح مستفتيه بذلك، وينجح الأمر معهم بالفعل، مؤكدا أن أفراد العالم الآخر أضعف ما يكون، حيث يمكن التغلب عليهم بمجرد ذكر الله.
هل يمكن للبشر رؤية الجن حقا؟
السؤال السالف أجاب عنه الشيخ عويضة، موضحًا أن بعض البشر يكون لديهم القدرة على رؤية الجن بالفعل، ولكن لا يستطيع أي من هؤلاء الجزم بأنه قد رأى الجن على صورته الحقيقية؛ نظرًا لقدرة الجن على التشكل، واختيار الصور التي يظهر بها، لافتا كذلك إلى أن فكرة مس الشيطان وذويه للإنسان حقيقة مثبتة، لا يمكن إنكارها وإن اختلفت آلياتها.
رغم ذلك، شدد عثمان على أنه لا يجب إرجاع كل ما يحدث في الحياة مخالفًا لهوى البشر، إلى مسألة تدخل أفراد العالم الآخر في حياتنا، منوها بوجوب تواجد الإيمان لدى الأفراد بابتلاءات الله تعالى، ناصحا الناس بعدم الانصياع خلف مدعيً المعالجة من المس، الذين يكذب معظمهم بغرض التكسب والنصب، ولا علم لأي منهم بشؤون العالم الآخر.
الشيخ محمد. ج، أحد أئمة وزارة الأوقاف، قال إن الإنسان قد يرى الجن، ويشعر بوجوده، حسب مقدار الامتحان الذي يضع فيه الله عباده، مشيرا إلى أن القرآن أثبت في عدة مواضع، أن الجن قد يكون له علاقة بالإنس، كالاستعانة مثلا، كما فعل سليمان عليه السلام، منوها بأن بعض البشر لهم القدرة على رؤية الجن على صورته الطبيعية، وهم المختبرون والممتحنون من الله تعالى.
علاج الجاثوم
العلاج هو نقطة التقاء العلم والدين في مسألة الجاثوم، رغم الاختلاف الحاصل في تشخيص طبيعته، حيث أوضح هندي، أن أكثر الخلايا العصبية في جسم الإنسان، موجودة في الوجه، والتي بدورها ترتخي عند المسح عليها بالماء، ما يساهم في التخفيف من حدة التوتر، وهو ذاته ما ينصح به علماء الدين، حيث يحببون الوضوء في هذه الحالات، والاستعاذة بالله.
ما هي حقيقة الجاثوم؟
بعد مطالعة عدد من المصادر من كلا الجانبين، توصلنا من خلال روايات الحالات التي عانت من الجاثوم، والتفسيرات العلمية والدينية، توصلنا إلى أن الجاثوم الذي يؤمن به علم النفس هو مجرد هلاوس تستمر لثوان، وله أسباب عديدة ولا علاج له، كما أن مس الجن للإنسان الذي يؤمن به الدين، حقيقة يمكن أن تحدث، ولكنها تختلف عن الجاثوم تمام الاختلاف.
كما استنبطنا بحيادية أن حالة الجاثوم وحالة مس الجن للإنسان، أمران مختلفان تماما عن بعضهما، كلاهما صحيح في ذاته، إلا أن الخلاف بينهما يتبلور عند حدوث خطأ في تشخيص من يمر بهذه الحالة، كما أنه وفقا للمصادر المشاركة في هذا التحقيق، فإن أعراض شلل النوم تختلف عما يختبره الأفراد الذين يعانون من مس الجن، حيث لا يقتصر الأمر لدى الفئة الأخيرة على النوم فقط، بل ينسحب إلى ما هو أبعد وأكثر ضررًا من ذلك.