الموضة بين العقل والنقل
تبهرك وهي تخرج من الشرنقة فراشةً جميلةً، ما تلبث في فترة وجيزة أن تضع بيضًا؛ ليقفس ديدانًا، وتصبح هي جثة هامدة، هذا هو أقرب وصف تمثيلي لها، فهي كالبرق الخاطف يومض فجأة؛ ليختفي سريعًا.
أما أبلغ وصف فقاله الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد: لا يمكن تحمُّل بشاعة الموضة؛ ولذلك نُغيِّرها كل ستة أشهر.
قد يكون قالها من باب الفكاهة، لكنها حكمة بليغة.. فبينما أنت متكيِّف بأحدث موضة تضعها فوق جسدك، تعرف جيدًا أنها وقتية، وسيكون مصيرها مصير الفراشة. ولو رجعت إلى الوراء قليلًا، وقلَّبت في صفحات أحدث الموديلات العالمية وقتها، ستدرك هذه الحقيقة وأنت مشمئز.. مشمئز ربما لأنها المرة الوحيدة التي تملك فيها قرارًا.. التي تفتح فيها عينك، وتُشغِّل عقلك، وتحكِّم ذوقك؛ لتدرك أنها مقززة فعلًا. ورغم أن ما تلبسه قد يكون أبشع منها، ولكن حاسة التذوق عندك مُعطَّلة، وملكة التفكير مُخدَّرة؛ لأنك مُغيَّب، وستسحبك موجة الأيام القادمة من هوجة الانسياق المبهور إلى دوامة انتهاء صلاحية الملابس التي تتباهى بها؛ لتنسلخ انسلاخ دودة القز.
الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد
ثم تُعيد الكَرَّة، وتواصل الدودة دورة حياتها، وتظل تدور بك في فلك الموضة المتجددة المنسلخة، التي تدور بعقلك بلا استقرار.. تدور وأنت مطيع لها أشد من طاعتك لله؛ فأنت تطبق من أوامره شيئًا، وتُغفِل أشياء، وتتشبث بحرف، وتترك أجزاء، وقد تجادل الله؛ طلبًا للاقتناع. أما الموضة فأمرها كله مطاع.. قدسيتها لا تقبل التشكيك، ولا يتسع صدرها للنقاش؛ لأن النقاش تفكير، والتفكير مناقض لتلك العقيدة؛ لذا لا تستغرب إذا رمقك شاب بنظرة استحمار وأنت تسأله: لماذا تلبس البنطلون المقطع، الذي يظهر ركبك القميئة؟ لأن السؤال تشغيل للعقل وتحكيم للمنطق، وعقيدة الموضة التسليم المطلق، كما أن الإجابة واضحة: "إنها الموضة". تلك الكلمة الساحرة السحرية.
ورغم قدسيتها، فالموضة انحدرت لمستوى النكتة.. تبوخ إذا اكتست واكتسبت كلمة "قديمة"؛ لذا تجد الشاب وهو يسخر من موضات السنين الماضية، التي كانت أرقى الأزياء، لا يفكر في أنه سيأتي بعده من يسخر من موضته، كما لا يفهم أن الموضات القديمة (مثار السخرية) يجترُّها مصممو الأزياء، ويعيدونها إلينا؛ لتصبح أيقونة الشياكة والألاجة.
صادفني تقرير منشور من عدة سنين بمجلة زهرة الخليج بعنوان موضات السبعينيات.. نتمنى ألا تعود.
وقد عادت، وأقرب مثال (وهو أكثر بنطلون نال أقساطًا من الاستهزاء) هو الشارلستون، الذي صار موضة ملزمة لكل فتاة، وإلا فهي متخلفة عن الموضة، أو بمعنى أدق فقيرة لا تملك مالًا تشتري به اللبس الجديد. وهذا الجانب النفسي هو الأسوأ في همجية الانقياد وراء الموضة.
أما لو كنت من أدعياء العقل الغاوين تعب قلب، وسألت أحدهم عن سر ارتداء نجوم هوليود للملابس الممزقة، والتي جعلت معجبيهم يقتدون بهم، فلن يدرك أنهم لبسوها لهدف إنساني، وهو التضامن مع الفقراء.
كما لن يفهم أن البنطلون الساقط هو إعلان من الشواذ عن هويتهم. فلك أن تتخيل أن أحد شبابنا الورد سافر إلى أوروبا أو أمريكا وارتداه، ماذا سيحدث له.
الغرب الذي ننساق وراءه في الموضات إنما يضعها بوعي.. يُصنِّف الموضات لفئات ليست طبقية ولكن أيديولوجية، وأيضًا فنية، وحتى بعض عروض الأزياء العالمية التي تقدم تصميمات هلامية سيريالية حداثية لها منطقها، فهذه العروض لوحات فنية، مقصود بها أن يُطلِق كل مصمم لخياله العنان في أفكار مثيرة تجذب الانتباه، وليست من أجل اللبس.
وفي المجال العملي نجد واضعي الموضة ومسوقيها وبائعيها لهم منطق تسويقي واضح، وهو ضمان استمرار دورة حياة المنتج، أو ما يُطلِق عليها الخواجات Product Life Cycle؛ حتى يظل مطروحًا في السوق وعليه طلب.
لا خلاف على أن كل إنسان حر فيما يلبس، ولكنه يتحمل نتيجة حريته، فلا تكن أنت مسخًا.. كن صاحب ذوق.. تَخيَّر من الموضة ما يليق بك، ويجعلك تبدو في مظهر أنيق.. فكما أن المادة الأولى من دستور الشياكة تنص على أن اللبس يدل على الشخصية، فإن دستور الشخصية ينص على أن يكون لك رأيك.
كن أنت.. فلا يكفي أن تمتلك الحرية في الرأي، ولكن أن تمتلك الرأي الحر، فلا تكن كالدهماء أو العبيد.