اقتصاديات الضرورة 4: مصر ومعضلة زامبيا
طرحت سابقا في مقال اقتصاديات الضرورة 3، نبذة عن فكرة الديون، وتعرضت لطبيعة هذا الخيار وبعض التوضيحات الوجوبية بشأنه وآليات تطبيقه فيما يخص حالة الدولة المصرية، وفي الحقيقة تلقيت العديد من الاستفسارات منذ ذلك الحين، التي طلبت مني تناول بعض التجارب الدولية الحديثة في عملية هيكلة الدين.
فمنذ أيام، أعلنت الدول الدائنة لدولة زامبيا، إعادة هيكلة جزء من ديونها، حيث تم الاتفاق على تقديم فترة سماح مدتها ثلاث سنوات لا تستحق خلالها سوى مدفوعات الفائدة وإطالة آجال الاستحقاق إلى أكثر من 20 عامًا، كما تسمح الصفقة بترتيب التسهيل الائتماني الممتد التابع لصندوق النقد الدولي (ECF) بقيمة ١،٣ مليار دولار أمريكي (من أغسطس ٢٠٢٢ إلى أكتوبر ٢٠٢٥).
زامبيا هي أول دولة في إفريقيا تتخلف عن السداد بعد تفشي كوفيد-١٩، حيث في نوفمبر ٢٠٢٠، تخلفت زامبيا عن سداد ديونها باليورو، وفي فبراير ٢٠٢١، تقدمت هذه الدولة بطلب لتخفيف عبء الديون بموجب الإطار المشترك لمجموعة العشرين (G20) لمعالجة الديون، لكن توقفت عملية إعادة الهيكلة لأكثر من عامين بسبب التوترات بين الصين (أكبر دائن رسمي لزامبيا) والدول الدائنة الأخرى (الهند والمملكة العربية السعودية والدول الأعضاء في نادي باريس).
وبلغت قيمة إجمالي ديون زامبيا نحو ٣٢،٨ مليار دولار، منها ١٨،٦ مليار دولار من الدائنين الأجانب، وكانت فترة التراكم السريع لديون لزامبيا تمت في الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٩، بما أوصل الدين الخارجي لها من ٣٠٪ إلى ١٢٠٪ من قيمة الناتج المحلي، استهلكت الدولة معظمها في بناء مشاريع بنية تحتية دون عوائد تذكر لهذه المشاريع، بما أدى إلى هذا التعثر.
مشكلة زامبيا تأتي في المقام الأول في طبيعة تكوين ديونها، فهي استدانت عن طريق ديون تجارية وسندات مقومة باليورو، ووصلت الديون التجارية المُكلفة للغاية من أصله، إلى أكثر من ٥٠% من حجم الديون الخارجية للدولة، وهذه الإشكالية المعقدة تسببت في طول فترة التفاوض مع الدائنين حتى وصلت للاتفاق المذكور.
وعودة للمقاربة.. فـ"مصر ليست زامبيا" لسبب بسيط، وهو طبيعة ديون مصر، التي تضم نسبة ٥٠% منها كديون لمؤسسات دولية (multilateral) و٢٥% من ديون لدول الخليج عن طريق ودائع باختلاف آجالاها، لكن طبيعة المشكلة في مجملها النهائي قريبة من حالة زامبيا من حيث الضغط الاقتصادي لحمل الدين أيا كان مصدره.
فطبيعة الدين المصري تشكل ميزة وعيبا في ذات الوقت، حيث يتميز بأن أي تفاوض عليه -لو لجأت الدولة إلى خيار إعادة الهيكلة- أسهل من الناحية النظرية مقارنة بحالة زامبيا، لأن الدائنين ليسوا بنوكًا تجارية بل أغلبه مؤسسات ودول بعينها، في حين أن ما يعيبه هو صعوبته من الناحية الفنية لأن شروط منح الدين مربوطة بخطوات في وجهة نظر الدائن لم تتحقق بالأساس، وعليه فالتفاوض على إعادة هيكلته سوف يتطلب مجهود أكبر.
التزامات مصر من الديون الخارجية حتى ٢٠٢٥ كالاتي: ١٢ مليار قبل نهاية العام الحالي، والعام القادم يجب سداد ١٠،٩ مليار دولار في النصف الأول، و١٣،٣ مليار دولار في النصف الثاني، أما في ٢٠٢٥ فيجب سداد ٩،٣ مليار دولار في النصف الأول و٥،٨ مليار دولار في النصف الثاني.
أي نعم الحكومة تقوم بجهود خلال هذه الفترة لتوفير سيولة من مسارات عدة أبرزها بالطبع برنامج الطروحات وحزم التمويل، لتحقيق مردود يتماشى مع جدول السداد، ولكن مكمن القصيد هو أنه في حالة حدوث اختلال أو صعوبة في هذه الخطوات أو عدم تحقيق المستهدف منه لا قدر الله، سوف تكون هناك عودة لا محالة للتناقش مع الدائنين، وهذا التفاوض لا بد أن يستند إلى إجراءات مقنعة وملموسة، حتى يحقق قبولا لديهم.
منطقيا.. كل خطوة الدولة تستطيع تنفيذها في سبيل تحقيق المستهدفات التمويلية لا بد أن تتم بخطوات سريعة وجادة للخروج من أزمة السيولة الحالية، لأنها نفسها ذات الخطوات الواجب إتمامها حال اللجوء إلى الهيكلة في ظل أن صاحب الدين هو ذاته مقرض الملاذ الأخير "lender of last resort".