عن تقرير صندوق النقد
اعتدت أن أشهد مواقف متضادة بشأن ما يصدر عن صندوق النقد الدولي في أي تقرير أو توصية أو حتى توجيه عن الوضع في مصر، ما بين الحديث عن كون ذلك شهادة ثقة في الاقتصاد الوطني تشجع الاستثمار وتُخدّم على خطط التنمية، أو الإشارة إلى أن هذه المؤسسة لا تريد الخير لا لمصر ولا لشعبها وتجرّنا نحو مُنحدر.
وفي الحقيقة فإن كلا الطرفين مخطئ تمامًا، خاصة وأن التعاون مع الصندوق من الأساس يستهدف سد الفجوة التمويلية الدولارية وتطبيق إصلاحات هيكلية لتدارك الأزمة التي تلاحق الاقتصاد المصري وتهدد مستقبله، بمعنى أنه لا يعنيه أن يعطي شهادة ثقة قدر أنه يوجه الدولة نحو سياسات من شأنها أن تضبط مسار اقتصادها، أما نظرية المؤامرة منه فلا أظنها تستحق التعليق في ظل أن الحكومات ذاتها هي من تسعى للتعاون مع الصندوق.
ويتفق ذلك مع التقرير الأخير الصادر عن خبراء الصندوق والخاص بأول مراجعتين من برنامج التمويل للدولة المصرية والذي وصل إلى 8 مليارات دولار، والذي يمثل في نظري التقرير الأقوى فنيًا عما سبقه في أي اتفاقات سابقة.
وفي تقديري، فإن التقرير يمثل خارطة طريق وروشتة مقترحة حال تطبيقها سينصلح الوضع، حيث يمكننا تلخيص ما جاء في التقرير في ثلاثة محاور أولهما محور السياسة النقدية، ثم السياسة المالية وأخيرًا التنافسية.
وفي جوانب السياسة النقدية، فقد شدد الصندوق على الحرص على سعر صرف حر واصفًا إياه بالتحدي الأكبر لنجاح البرنامج، كما طالب بالإفصاح عن أي تدخل للبنك المركزي في سعر الصرف، وكذلك التوقف عن الإقراض بشكل مباشر لمؤسسات الدولة أو عن طريق البنوك الحكومية، وهي نقطة مفصلية استشرت بشدة في عهد المحافظ الأسبق طارق عامر.
أما على الصعيد المالي، فتحدث التقرير عن الإنفاق الحكومي المتزايد وأهمية الدفع نحو مزيد من الشفافية على عدة أصعدة منها الالتزام بنشر الالتزامات نحو الهيئات والشركات التابعة للحكومة، والتخارج تدريجيًا من الدعم العيني مع استبداله بالتوسع في الدعم النقدي المشروط.
وفي هذا الصدد، تناول التقرير ظاهرة الإنفاق من خارج الموازنة موضحا مدى الضغط المالي الذي يمثله هذا التوسع غير المدروس والذي تخطي 50% من تمويل هذه المشروعات، خاصة وأن الأثر الاقتصادي وتوابعه لهذا النهج واحدة، وتأتي هنا فكرة وحدة الموازنة كآلية أساسية في سبيل الحل والتي لا يجب أن تكون محل نقاش من أصله بل هي أولى خطوات التدارك.
فبديهيًا.. الإنفاق العام الشديد على المشروعات في ظل عجز مزودج يولد اتساع في احتياج المكون الدولاري وهو ما يرتب الاستدانة الخارجية والداخلية بما ينتج عنه ضعف قيمة العملة ثم زيادة المعروض النقدي وتفحل معدلات التضخم وارتفاع الأسعار -بالضبط حالتنا- ورغم ذلك تواصل الحكومة في هذا النهج دون أي اعتبار لأي آثار كارثية تنجم عنه.
وعن التنافسية، شدد التقرير على أهمية تخارج الدولة ومؤسساتها ودعم مناخ الاستثمار من خلال عدة سياسات منها تعهد الحكومة بنشر جميع عقود المشتريات التي تزيد قيمتها عن 20 مليون جنيه وكذا نشر الإعفاءات والمزايا للشركات المملوكة للدولة.
وأرى أن الصندوق ربما قد تعلم الدرس الذي واجهه في 2016، بعدم متابعته تنفيذ الحكومة لشروطه وقتها، كما أشرت في تصريحي مع النيويورك تايمز منذ فترة وجيزة، حيث يبدو ذلك جليًا في التقرير في ضوء إصرار الصندوق على التدقيق والمتابعة بشكل قوي وفقًا لمؤشرات ومعدلات قياس أداء واضحة لا عناوين فضفاضة وتعهدات غير واقعية، وهو ما يؤكده تعهد مصر بتسديد ما يزيد عن 6 مليارات دولار للصندوق خلال العام بينما ستحصل على أقل من 3 مليارات دولار.
قد يمثل التقرير -حال النظر إليه بإنصاف- إشارة متفائلة بأن مشكلتنا الاقتصادية ليست مستعصية على الإطلاق، بل أن نقاط الخلل الهيكلي واضحة للغاية وكذلك هي أسباب حدوث المشكلات وأيضا حلولها المضمونة، فالسياسات التي أُتبعت على مدار عقد ماضٍ تقريبًا تتعارض بشكل واضح وجلي مع مفاهيم وأسس الاقتصاد الكلي، ورغم ذلك لم تكن الاستجابة للحلول المقترحة على قدر الكارثة.
ورغم أن كل ما ورد في التقرير، ربما دار خلف الأبواب المغلقة طيلة عقد مضى، فقد أعجبني التقرير لعدة أسباب، أهمها وضوح رؤيته وبعده عن التحفظ والصوابية السياسية، كما سعدت بكم البيانات التى احتوى عليها وبعضها غير متاح في مصر حتى للمتخصصين
ختاما، فالتقرير يعطي إحساس بالتفاؤل الممزوج بالحسرة، خاصة وأنه يطرح تساؤل فعلي عن أسباب عدم التحرك لمواجهة الأزمة وسط كل هذه التحذيرات والتوجهيات والنصائح أيضا، وأختتم الكلام بمقولة تلخص الوضع ببلاغة: “كما أن العلاج قريب، فالانتكاسة قريبة على نفس المسافة”.