طبيعتك سر سعادتك
يُحذّر السيد المسيح المنافقين قائلاً: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيّون المراؤون، فإنكم أشبه بالقبور المُكلّسَة، يبدو ظاهرها جميلاً، وأما باطنها فممتلئ من عظام الموتى وكل نجاسة” (مت 27:23). لماذا لا نبدو على صورتنا الحقيقية في تعاملاتنا مع الآخرين سواء في الكلام أو السلوك؟ لماذا نخدع الناس بنفاقنا وكذبنا من أجل مصالحنا الشخصية؟ مما لاشك فيه أنه لا يستطيع أي إنسان أن يستمر في هذه الرذيلة دون أن يُفتضح أمره، وكما يقول المَثَل: “تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع جميع الناس كل الوقت”. فالنفاق والكذب والتعالي والخداع كلها أسلحة المنافق التي يستخدمها في علاقته بالآخرين، ولكن تأتي اللحظة الحاسمة وهي فَضْح أمره أمام الناس. وهذا ما نكتشفه في التعامل مع بعض الناس الذين نحكم عليهم من المظهر الخارجي الجذّاب والحسن ونتأثر بهم؛ ولكن الداخل كلّه فراغ وسطحية، وكما يقول ميكافيللي: “يرى الناس ظاهرك فقط، وقليلون الذين يعلمون مَنْ تكون”.
لماذا يتصرّف الكثيرون هكذا؟ يُرجِع البعض هذا إلى تربية الوالدين الصارمة واستخدام العقاب المستمر والقاسي، فينتج عنه رذيلة النفاق والخداع والغش، لأن الأبناء يتسلّحون بهذه الأساليب لينالوا رضا وإعجاب الوالدين ثم ينتهي بهم المطاف إلى عادة الكذب حتى على أنفسهم، فالتخويف الدائم والمستمر لا يخلق شخصية سوية أبداً، ولا يبني إنساناً حقيقياً صادقاً سوياً، ولا يعني هذا أننا نرفض استخدام الشدّة من الوالدين أحياناً في تربية أبنائهم، ولكن ليس المقصود بها الرعب الذي يدفع الأبناء للجوء إلى النفاق كوسيلة دفاع عن النفس ويظل هذا معهم ويتأصل فيهم في التعامل مع الجميع، وهذا هو التصنّع الذي ينتج عنه الغش والنفاق والكذب والإنسان ذي الوجهين.
ويقول جبران خليل جبران: “ليتني طفلٌ لا يكبر أبداً فلا أنافق ولا أهادن ولا أكره أحداً”. إذاً لا يستطيع أحدٌ أن يرتدي قناعاً لمدة طويلة، وأن يصنع له وجهاً ليظهر به أمام نفسه، وآخراً ليكشفه للناس دون أن يقع في الحيرة وعدم التركيز ليميّز أيهما الحقيقي وأيهما المزيّف، لأن الخداع لا يستمر طويلاً وستأتي اللحظة التي تظهر فيها حقيقة الشخص، وكما يقول المَثَل: “احترس من المنافقين، فالأطعمة السكّريّة تسوّس الأسنان”. داود النبي شكا لله مراراً وتكراراً من أقرب الناس له قائلاً: “لو أن عدوّاً عيّرني لاحتملته، ولو أن مُبغِضي تعاظم عليَّ لتواريتُ عنه. ولكنكَ أنت، يا نِدّي وأليفي وأنيسي، يا مَن تربطني به أحلى مُعاشرة حين كنّا معاً في بيت الله نسير… فمهُ أليَنُ من الزُبد وقلبه يشُنُّ القِتال. كلماته أرقَّ من الزيت وهي سُيوفٌ مسلولة” (مز 54: 13-15، 22)، وهنا يفضح داود خيانة الصديق المُقَرّب إلى قلبه، ويفضفض لله حتى يُعينه ويمنحه القوة، ويُظهر التحوّل المُخزي والمخجل من الصديق والرفيق وموضع الثقة والعِشرة الطيبة إلى عدوٍ ممتلئ بغضاً ومروّج الإشاعات، فكلمات الحُب تحوّلت إلى كلمات الخداع والإهانات، وأدوات السلام الأنعم من الزبد والزيت أصبحت أساليب القتال بالسيف. وهنا نتذكّر كلمات كاتب الدراما الفرنسي راسين: “كلما أهانني عزيزٌ عليّ، شعرتُ بثقل الإهانة”.
فالخطورة الكبرى للنفاق هو عيبٌ كله خداع لأنه يتجمّل ويرتدي صورة الفضائل، وينصحنا الكاتب الساخر الإيطالي ﭼوﭭاني ﭘاﭙيني قائلاً: “لا نضع ثقتنا في المظاهر، حتى ولو على نطاق ديني، لأن الجِمَال تركع أيضاً… ومَن يقطعون شرائح البصل يبكون…”، فهذا المرض منتشر كثيراً وفي مجالات عدّة، ونحن نعيش في عالم مليء بالمظاهر الخادعة والسطحية، ولكن مَن يريد الحقيقة والمصداقية، فهو بحاجةٍ إلى الشجاعة والتواضع والصدق مع النفس، وكما يقول الكاتب الأمريكي مارك تويين: “لأن التربية الصحيحة تكمن في إخفاء ما نعتبره صالح في داخلنا وما هو سيء في الآخرين”، لأنه من السهل أن نقع في فخ الرياء في غياب الآخرين ونتحدث عنهم بكل ما هو سيء، ولكن في اللحظة التي يظهروا فيها أمامنا يتبدّل كلامنا المنمّق ويصبح رياءً ونفاقاً في الحديث عنهم. ويقول الكاتب Andrè Guide: “لو عرِف كلّ واحدٍ منّا ما يقوله عنه الآخرون، لَمَا تحدّث أحدٌ عن أحدٍ”. إذاً علينا أن نتعود على قول الحقيقة مهما كلّفنا الأمر، فالنفاق والكذب والخداع لن يدوموا طويلاً وستظهر الحقيقة إن آجلاً أو عاجلاً، ونختم بكلمات شكسبير: “حين خلقك الله، صنع لك وجهاً، وبعد أن خلقك الله، تصنع لنفسك وجهاً آخر”.