قنبلة كورونا في بيئة الأمن القومي
يُعد مفهوم الأمن القومي من المفاهيم الأكثر تعقيداً واتساعاً، على نحو قد جعله قادر على التطور والتكيف بما يطرأ على الساحة الدولية والإقليمية والمحلية من تهديدات ومخاطر في بيئته، إذ أدى انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد19) حالياً إلى التغير في مفهوم الأمن القومي للدول، بما جعل الدول تعيد ترتيب الأروقة والمؤسسات، لاسيما أجهزة الاستخبارات المركزية، التي قد اعتادت التركيز على تأمين الموارد ، مكافحة التهديدات الإرهابية ، وصد أي محاولات من قبل الدول المعادية التي تحاول المساس بسيادتها وأمنها القومي.
إذ يأتي تغيير أولويات أجهزة الاستخبارات المركزية مع التهديدات والمخاطر التي تواجه أمنها القومي، انطلاقاً من التهديدات التي خَلفها فيروس كورونا المستجد من تعطيل عجلة التنمية والرفاهية الاقتصادية للدول من جهه، وتهديد الطاقات البشرية المتعلقة بحجم الإنتاجية الاقتصادية وبناء وقدرات الجيوش من جهه آخرى.
الأمر الذي أدى إلى تكبد العديد من الدول الكثير من الخسائر المادية الفادحة سواء في حجم الإنتاجية الاقتصادية أو الأرواح البشرية على حد السواء، فضلاً عن حدوث صعود وخفوض في ميزان القوة الدولي داخل النسق الدولي، ومن ثم تتجسد هذه الأمورحول تساؤل رئيسي يتعلق بماهية موقع فيروس كورونا المستجد من منظور الأمن القومي وتداعياته شاملة الأبعاد على أمن الدولة والمواطن معاً.
إذ يشير مفهوم الأمن القومي في جملته إلى “قدرة الدولة على توفير أكبر قدر من الحماية و الاستقرار لتحقيق التنمية الشاملة للدولة فى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والبيئية والمعلوماتية والايديولوجية، ضد كافة أنواع التهديدات سواء محلية أو إقليمية أوعالمية لتحقيق الأهداف القومية للدولة”.
ومن هنا نجد أن هذا المفهوم غير مطلق، نظراً إلى تعدد وسائل التدمير القادرة على الوصول إلى أي مكان في العالم، بالإضافة إلى وجود دول متجاورة ذات حدود مشتركة تمتلك كل منها وسائل القتال بما هو قادر على احداث قدر كبير من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وقادر على اجتياز الحدود والوصول لأراضي الدول الآخرى. كما أنه مفهوم نسبي وفقاً إلى اختلاف المفهوم في تقدير المصالح الحيوية أو القيم الجوهرية.
فضلاً عن كونه مفهوم ديناميكي، لأن ليس هناك صداقة أو عداوة دائمة؛ بل هناك مصالح مستمرة، الأمر الذي يوضح لنا أن الدولة لا يمكن أن تتخذ ترتيبات لتحقيق أمنها القومي ثم تشرع في تنفيذها وتتوقف عند هذا الحد فقط، بل يجب عليها أن تراقب الحركة من حولها، وتتابعها باستمرار ، تعدل من سياستها وفقاً لمقتضيات أمنها القومي.
كما أن هناك تعدد في أبعاد الأمن القومي، ومنها البعد العسكري وهدفه بناء جيش قوي قادر على ردع أي عدوان خارجي مع تأمين مصالح الدولة القومية، بالإضافة إلى البعد الاقتصادي الذي يهدف إلى توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير سبل التقدم والرفاهية له، البعد السياسي الذي يرشد الدولة ويحدد لها كيفية تنظيم وإدارة قواها، وأيضاً البعد الاجتماعي وهو يتضمن عدة عناصر تتكامل مع بعضها البعض لتكون هذا البعد ككل، والذي يحمل في طياته كل من الثقافة ، العادات والتقاليد ، الأخلاق ، الحفاظ على البيئة بكل أبعادها مثل الحروب البيولوجية ونشر الفيروسات ، توفير الرعاية الصحية للمواطنين ، التأمين الديمغرافي للمجتمع، فضلاً عن البعد الجيوبولتيكي والذي يتعلق بأثر العوامل الجغرافية للدولة على السياسة الخارجية للدول، ويساعد صانع القرار في معرفة نقاط القوة والضعف عند رسمه لسياسة الدولة، وأخيراً البعد المعلوماتي ويتمحور حول المعلومات والفضاء الإلكتروني ودورهم في حماية الدولة.
ولذلك، من المُلاحظ أن ظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد19) قد أدى إلى تهديد الأمن القومي لدى كافة الدول، الأمر الذي أدى إلى اتخاذ الدول كافة الإجراءات الإحترازية؛ للحد من تفشي هذا الوباء داخل أراضيها ، وحماية مواطنيها العاملين بالخارج، وهو ما يثبت صحة فرضية أن مفهوم الأمن القومي شامل ومُتسع وديناميكي، وقابل على التطور والتكيف مع كل ما يهدد بيئة الأمن القومي.
هذا التنوع في أبعاد الأمن القومي، وفي ظل تفشي فيروس كورونا المستج، فقد أتاح الفرصة للقيادة السياسية داخل الدول بأن تعطي أولوياتها لبعد معين على حساب بعد آخر؛ إلا أن ذلك لايُعني أنها تهمل باقي الأبعاد؛ لأن جميعهم يتكاملون في بوتقة الأمن القومي للدول.
وفي هذا الصدد، نجد أن الدول قد أعطت الأولوية للمجال الطبي، وتوفير الرعاية الصحية للمواطنين في ظل انتشار الفيروس، بدلاً من تركيز أجهزة الاستخبارات المركزية لكافة الدول على البعد العسكري، والتهديدات الإرهابية التي تتعرض لها البلاد، فعلى سبيل المثال نرى أن بعض الأساطيل البحرية وحاملات الطائرات العسكرية لدى القوى العظمى قد أصاب فيروس كورونا المستجد الكثير من طاقمها وجنودها، الأمر الذي يحول دون ممارسة مهامهم العسكرية في النطاقين المحلي والإقليمي.
فلم تكن الكثير من أجهزة الاستخبارات المركزية مجهزة بوحدات صحية؛ فأصبحت أجهزة الاستخبارات حالياً تقدم تقارير تتعلق بالمجال الصحي عن انتشار الفيروسات حول العالم، خاصة فيروس كورونا المستجد الذي يهدد بقاء المواطن والدولة على حد السواء.
ولعل من أبرز الأمثلة الدالة على ذلك ماحدث مؤخراً بين الولايات المتحدة والصين، حيث نشرت الاستخبارات الأميركية تقريرا يتهم الصين بإخفاء تفاصيل عن مدى انتشار الفيروس في المراحل الأولى لتفشيه، بل إنها أخفت الأعداد الحقيقية لضحايا الفيروس حسب الاتهامات الأمريكية.
وفي ألمانيا استطاعت أجهزة الاستخبارات التجسس على أجهزة الاستخبارات الصينية، ومعرفة أن الفيروس انتشر في الصين، وحصلت على تفاصيل حول الفيروس، وقامت بإبلاغ المؤسسات الصحية في ألمانيا، قبل أسبوعين من إعلانه، وهذه تعتبر خطوة استباقية من الاستخبارات، بينما في بريطانيا قد صُنفت الأوبئة العالمية منذ عقود على أنها تشكل خطورة على أمن البلاد، إلا أن ذلك لم ينعكس على حجم الموارد المخصصة لمجابهة تهديد صحي مثل فيروس كورونا، مقارنة بمصادر التهديد التقليدية ومنها الإرهاب.
كما تلعب القوات المسلحة في مختلف الدول دوراً هاماً في مكافحة فيروس كورونا المستجد، وتأمين الأفراد من خلال فرض حجر صحي على المواطنين بالمنازل، وتقليص ساعات العمل، أو توفير خدمات العمل عن بعد، بالإضافة إلى زيادة إنتاجية الكمامات، وبرامج الوقاية الصحية، فضلاً عن ضخ العديد من المركبات التي تعمل كمستشفيات متنقلة تحسباً لتطورالأوضاع بالبلدان، كما هو الحال في مصر، فضلاً عن الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الدول؛ لرفع العبء عن المواطنين.