عناء وفداء.. ممرضة بمستشفى أبو خليفة لعزل مصابي كورونا تروي تجربتها في محاربة الفيروس
طوال 42 يومًا مكثت فاطمة إبراهيم، ممرضة العناية المركزة بمستشفى أبو خليفة بمحافظة الإسماعيلية، بعد تحويلها لمستشفى عزل صحي، ساعات طويلة ثقال عاشتها هي ورفاقها تحت سقف واحد لتخلق معها حالة من الألفة والود بين الجميع من عمال والطاقم الطبي، لتشمل المرضى أيضًا، ويتسللها ساعات رعب وأخرى محبة، وكذلك خذلان وخذي في بعض الأحيان ولسان حالهم”كلنا في مركب واحدة”.
تسرد فاطمة التي تسير نحو الـ22 من عمرها لـ“القاهرة 24” تفاصيل أيام طوال عاشتها تحت جدران مستشفى أبو خليفة في محاربة فيروس كورونا.
في 8 مارس الماضي علمت فاطمة ورفاقها بتحويل المشفى إلى حجر صحي، وعلى الفور اتخذ الجميع قرار الموافقة على المشاركة في الحجر الصحي بلا تردد، دون معرفة أي تفاصيل أو ماديات سيحصلون عليها مقابل العمل.
“من جوانا كنا مرعوبين وبنبين أننا كويسين وأننا قدها وبنطمن بعض”.. تعود فاطمة بذاكرتها إلى لحظات تبليغهم بقرب وصول أول حالة مصابة بكورونا إلى المستشفى، كان الجميع يتملكهم الخوف من المجهول الذي يهرب منه العالم أجمع، ولكن كل منهما يطمئن الآخر والجميع على أتم استعداد.
“برجاء إخلاء الممرات”، أصوات تدوي في أرجاء المستشفى لتعلن عن وصول حالة جديدة وتطالب الجميع بالابتعاد عن الممرات حتى تنقل حالة كورونا، في المرة الأولى لسمعاها أصيب الجميع بالهلع والخوف، وتقول: “أول مرة سمعنا فيه برجاء إخلاء الممرات كنا هنموت من الرعب فضينا المستشفى لحد ما الحالة طلعت.. كنا بنام ونصحى على صوت سرينة الإسعاف وفي كل مرة نسمعها كانت رعب”.
“لينا زمايل كنا بنفوقهم بالماية ويرجعوا للشغل تاني” مع بداية أيام الحجر كانت فاطمة ورفاقها من الطاقم الطبي على موعد مع ملحمة أخرى وتحد يواجهونه للمرة الأولى، وهو البدلة الوقائية، ومع ارتدائها لأول مرة، تعرض البعض لهبوط، وآخرين سقطوا مغشيًا عليهم.
وتشبه فاطمة درجة حرارتها بغرفة 60 درجة، ويرتدونها لساعات متواصلة طوال اليوم، وتوصف: “أول يوم جالي هبوط وكان هيغم عليا من البدلة ماكنتش عارفه أخد نفسي نهائي، كأننا في ساونة من السخونة والكمامة بتخنق.. نفسك كل شوية بيضيق”. وتضيف: “بنلبس لبسنا التقليدي، بالإضافة للبدلة والكمامة وواقي الوجه، النفس بناخده بصعوبة جدا”.
فاطمة ورفاقها من طاقم التمريض
سخونة وآلام في الحلق وآلام متفرقة بالجسم، كلها أعراض شعر بها البعض من الطاقم الطبي في الأيام الأولى من الحجر، وهي نفسها أعراض الإصابة بفيروس كورونا، ليصيب البقية بحالة هلع وطرد النوم من أجفانهم ويراودهم سؤال يؤرقهم هل هذا نزلة برد تقليدية أم نقل لهم العدوى؟ ليخضعوا فورًا لمسحات والتي جاءت كلها سلبية، ويتبين أنه برد تقليدي بسبب ارتداء البدلة، وخلعها على مدار اليوم.
“لو واحد فينا وقع كلنا هنقع وراه”، تسرد الممرضة الشابة لـ”القاهرة 24″عن حالة الأنس الموجودة بين بعضهم البعض لتخفيف حدة الأيام معبرهً بقولها: “كلنا كنا يد واحدة ومفيش فرق بينا بداية من العامل وحتى أكبر دكتور بالمستشفى.. كنا أهل وكلنا بندعم بعض عشان نهون على بعض الأيام وبسبب الحالة دي كملنا الـ14 يوم وجددناهم، كلنا أعمارنا بين الـ22 و26 سنة”.
الدعم النفسي للمريض يأتي على رأس الأولويات لدى من يطلق على وظيفتهم ملاك الرحمة، والتي تصف حالتهم النفسية عند وصولهم للحجر الصحي بـ “شبه ميتين”، وكل ما يدور في رأسهم سؤال واحد: “أنا هموت ولا هعيش؟”، وتردف: “نفسيتنا كانت في الأرض وبمجرد الدخول للمريض بننسى إحساسنا وبنرفع من معنوياتهم.. كنت بدخل أتأسفلهم عن الأدوات الوقائية التي أرتديها وبتكلم معاهم إني بأمن نفسي وبحميك في نفس الوقت كنا بنحاول ندعمهم نفسيًا بشتى الطرق”.
جهاد الرحمة.. قصص أيام الحُب والحجر لممرضات في مواجهة فيروس كورونا (خاص)
الخزي والمعاملة الجافة؛ هو ما تلقته فاطمة من بعض المصابين مثلما تلقت الحب والدعوات من البعض الآخر، حيث كان البعض يستقبل الدعم المقدم من قبل الهيئة الطبية ببسمة أو دعوة أو بكتابة الشعر فيهم مثلما فعل “عم مصطفى” أحد المرضى في المستشفى، مما رفع من معنوياتهم كثيرًا، حسب قولها، وآخرون تحكي عنهم فاطمة وتردف: “في مرضى طول الوقت متعصبين ومش طايقنا.. وحسب الروتين الوقائي عند دخولنا إلى المريض يستلزم عليه رفع الماسك، البعض كان قاصد مايرفعوش مما يعرضنا لخطر الإصابة، وغيرهم لو كحوا كانوا بيتأسفولنا”.
وعن ردود الفعل من قبل بعض المواطنين مع الهيئة الطبية في الفترة الأخيرة من رفض لدفن جثمان طبيبة ومواقف أخرى، ما كان له تأثير بليغ في نفوس الأطباء والممرضين، تسرد: “نفسيتنا كانت في الأرض بسبب معاملة الاطباء والتمريض من قبل الأهالي في الفترة الأخيرة، صعب نكون بنضحي بحياتنا ويكون دا جزائنا في الآخر”.
فاطمة ورفاقها من طاقم التمريض
وتكمل: “تمريض العناية هم أكثر فئة معرضة لانتقال العدوى لأن مريض العناية لا يتمكن من الحركة أو القيام بأي فعل لنفسه، ونحن من نتولى مسئوليته كاملًا وبعد استخدام جهاز التنفس الصناعي نقوم بعملية “تشفيط الإفرازات” بأنبوبة داخل الصدر، وبعد دا كله لو أصيبت يكون دا المقابل”. وتضيف: “لو اتصابت هيطلع السبب اهمال طبي مني لتطبيق الإجراءات الوقائية بصورة خاطئة وتعويض إصابة ألفين جنية، مع سوء معاملة لأهلي”.
تنظر فاطمة نظرة فخر نحو مهنتها التي سلكتها بمحض الصدفة، بالرغم من أن عمرها فيها قصير، حيث قضت فيها سنة فقط، عاشت فيها تجارب عدة مريرة بشأن نظرة المجتمع نحو التمريض، وتفول بنبرة غاضبة: “مش مستنين من الناس الدعم ولا الشكر.. قبل كورونا كنا بنتعامل اسوء معاملة وعارفين أنها هترجع تاني بعد مرور الأزمة”، مضيفة أن لا يوجد فرق بين الطبيب والممرض فكلاهما يكملان عمل بعضهما البعض.
عزل ما بعد العودة
أجبرها مرض والدها على قرار قطع فترة الحجر والعودة للأهل، والتي كانت ترفضه خشية معاملة الجيران أو إلحاق الأذى والعدوى لأهلها، ولكنها اختارت ألا تخبر أهلها خوفًا من نتيجة المسحة، وتصف الست ساعات التي مرت منذ أخذ المسحه منها وحتى ظهور النتيجة بأصعب اللحظات التي مرت بها في حياتها، وبعد تأكدها من سلبية النتيجة في غضون دقائق كانت أمام بوابة المستشفى.
طبيب يكشف لـ”القاهرة 24″ بطولات المصريين بالحجر الصحي بمستشفى إسنا في الأقصر (صور)
“كنت عايزة أحضن الأسفلت.. أخيرًا عديت السور”.. بنبرة تملأها الفرحة توصف شعورها حينهما، ولكنها بعد العودة للمنزل كانت على موعد مع عزل آخر، ولكن هذه المرة بالمنزل: “أمتعنت عن السلام على أسرتي وعزلت نفسي في أوضتي، وعايشه بالماسك في البيت”.
وبنبرة تمتزج فيها الحزن مع الفخر في الوقت نفسه تقول: “إني قاعدة معاهم في البيت ومش عارفه أبقى معاهم صعب.. أنا صغيرة في السن بس ما مريت به كبرني وأكتشفت نفسي في فترة الحجر الصحي”.
وتنهي حديثها وتقول: “هرجع من تاني لأن دا شغلي ولما ربنا يسألني أفنيت شبابك في إيه هعرف أرد عليه”.