الانفصال والانفصام
كثيرًا ما يتردد مفهوم الانفصال من قبل بعض السياسيين الأمريكيين في مناقشة العلاقات الصينية الأمريكية، حيث قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة على تويتر أن الجانب الأمريكي يحتفظ بخيار سياسة “الانفصال” التام عن الصين، ووصفت بعض وسائل الإعلام الأمريكية هذا الموقف بأنه الأكثر تشدّدًا من ترامب بشأن العلاقات الأمريكية الصينية، ورغم أن “حرب التصريحات” تبدو مثيرة إلا إن هناك العديد من التساؤلات التي تطرح عن مدى واقعية “انفصال” الاقتصادين.
ولكن الدعوات الحكومية الأمريكية التي تنادي بالانفصال عن الصين، أثبتت أن هناك انفصام في الاقتصاد الأمريكي بين الساسة الأمريكيين والحكومة من ناحية وبين الشركات الأمريكية الكبرى ورجال الاقتصاد من ناحية أخرى، فقد أشارت وكالة بلومبرغ في مقال لها إلى أن دعوة ترامب لـ “الانفصال” عن الصين، دفعت العديد من الشركات الأمريكية لزيادة مشترياتها من السلع الصينية وعلى سبيل المثال غادرت سفينة الشحن ميلينا ميناء شنتشن محملة بالمنتجات التي تحتاجها العائلات الأمريكية، ورست في لوس أنجلوس في 6 يوليو الجاري، وتبعتها بعد أسبوع وعلى نفس المسار سفينة أخرى أكبر، ثم تبعهم العديد من السفن من موانئ صينية مختلفة، ورغم أن وباء كورونا المستجد قد أدّى إلى مضاعفة تكاليف صناعة الشحن البحري إلا إن العديد من الشركات الأمريكية لا تزال حريصة على الحصول على السلع من الصين بسرعة أكبر.
وقد أشار المقال الي أن سفينة ميلينا التابعة لشركة “زيم” الإسرائيلية التي تعد واحدة من أكبر شركات الشحن في العالم، كما ذكر كاتب المقال، وتدير زيم وشركة ماتسون الأمريكية لسفن الشحن وشركة “سي جي إم أس آي” الفرنسية لنقل الحاويات أعمال الشحن بين الصين وأمريكا، ورأى المقال أن هذا الترابط بين الشركات يجسد صعوبة الانفصال بين أكبر اقتصاديين عالميين.
وقد قالت الصين على لسان خه ويوون كبير الخبراء في لجنة الخبراء بالمعهد الصيني للتجارة الدولية، أنه من الناحية الاقتصادية يصعب إيجاد “الصين الثانية” في العالم، كما قال: إن الانفصال عن الصين يعد مهمّة بالغة الصعوبة ولا يمكن تحقيقها عبر الضغوط السياسية ، وحتمًا ستكون أمريكا طرفا خاسرا من “الانفصال”، كما أكد أن سياسة الانفصال في حال تنفيذها ستمثل ضربة قوية لشركات التكنولوجيا الأمريكية.
أما حالة الانفصام بين الحكومة الأمريكية والكثير من الشركات الأمريكية فسببها اعتقاد الكثير من الشركات الأمريكية أنه يصعب إيجاد بديل عن الصين في الوقت الحالي، وفي أغسطس من العام الماضي، أمر ترامب الشركات الأمريكية في الصين بالعودة إلى الولايات المتحدة، ولكن ما حدث كان العكس تمامًا فبعد أيام من طلب ترامب افتتحت ثاني أكبر شركة تجزئة في أمريكا “كوستكو” متجرها الأول في الصين بشنغهاي، كما أطلقت شركة ايكسونموبيل مشروعها الاستثماري للإيثيلين في هويتشو الصينية بقيمة 10 مليار دولار أمريكي، كما تم تأسيس المقر الرئيسي لقسم الاسواق الناشئة ومركز الابتكار لشركة هونيويل الأمريكية في مدينة ووهان مصدر الوباء كما تدعي الحكومة الامريكية، مما دفع صحيفة “وولستريت جورنال” أن تعلق قائلة بأن الوباء والحرب التجارية لن تمنع الشركات الأمريكية من دخول السوق الصينية.
وفي ذات السياق أظهر الكتاب الأبيض السنوي الذي أصدرته غرفة التجارة الأمريكية في الصين أن ثلث الشركات الأمريكية في الصين تخطط لتوسيع استثماراتها في الصين بأكثر من 10٪، ووفقًا لاستطلاع أجرته غرفة التجارة الأمريكية في الصين وغرفة التجارة الأمريكية في شنغهاي صدر أثناء تفشي الوباء، وشمل 25 شركة أمريكية ذات إيرادات تزيد عن 500 مليون دولار أمريكي في العالم، فإنه على الرغم من أن الوباء قد أثر على أعمالها فإن 70٪ من الشركات لا تخطط للانتقال.
من جهة أخرى، فإن سياسات الحكومة الأمريكية الهادفة لخنق شركات التكنولوجيا العالية الصينية تخنق نفسها بنفسها ، حيث قالت صحيفة “ذي إيكونوميست” البريطانية “إن الحظر المفروض على هواوي قد يتسبب في ابتعاد صناعة أشباه الموصلات عن الولايات المتحدة لأن تطوير التكنولوجيا والمقر الرئيسي لشركة أشباه الموصلات الأمريكية موجودة في الولايات المتحدة ، لكن أغلب عمليات الانتاج في الخارج لاسيما الصين، وأضافت الصحيفة البريطانية بأن صناعة أشباه الموصلات قد غادرت أمريكا ومعنى هذا ان تكلفة “الانفصال” عن الصين باهظة، وفي ذات السياق قال عالم الاقتصاد الأمريكي ديفيد غولدمان في مقال نشره في صحيفة “آسيان تايمز”، أن انفصال أمريكا عن الصين يعني انفصالها عن آسيا ، وأضاف انه في الواقع فإن كل من ترامب والولايات المتحدة يحتاج إلى الصين.
وفي فترة ما بعد الوباء، كان انتعاش الصين أسرع من توقعات السوق الأمريكية، وهو ما عزز ثقة الشركات الأمريكية لتوسيع الاستثمار في الصين، إذ نشرت “ياهو فاينانس” في 27 يونيو مقالًا بعنوان “لماذا ستكون الصين أقوى من الولايات المتحدة بعد الوباء”، ورأى المقال إن الصين والولايات المتحدة أنفقتا الكثير على مكافحة المرض، لكن أموال الصين تنفق على الأبحاث الطبية، بالإضافة إلى تتبع الاتصالات الوثيقة وبناء المستشفيات والاستثمار في المعدات وعليه فإن هذه التكاليف استثمارا في حد ذاته، كما توقع الاقتصاديون في مؤسسة مورغن ستاينلي أن الصين ستكون الاقتصاد الوحيد الذي سيحقق نموًا في إجمالي الناتج المحلي في عام 2020، وأن عدد الطبقات المتوسطة والعليا في الصين سيستمر في النمو في العقد المقبل وبأن التعافي في الصين سيكون أسرع من الولايات المتحدة.
كل ما سبق عزز حالة الانفصام بين حكومة الولايات المتحدة وشركاتها الكبرى.