الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

مصطفى بيومي يكتب لـ"القاهرة 24": شخصيات من الرواية المصرية (1)..  مهندس الري في "دعاء الكروان" لطه حسين 

مصطفى بيومي
ثقافة
مصطفى بيومي
الإثنين 01/مارس/2021 - 09:30 م

من يتحمل مسئولية النهاية المأسوية لهنادي؟، أهو الخال القاتل ناصر؟، أم الفتاة نفسها بسلوكها المستهتر؟، لا بد أن تشير أصابع الاتهام أيضا إلى مهندس الري الشاب الذي لا يحمل اسما، فهو من يغوي هنادي ويدفعها إلى الخطيئة المهلكة. بالنظر إلى المرحلة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تمثل وظيفة مهندس الري جزءًا من منظومة الطبقة الراقية في المدن الصغيرة، ويتجلى ذلك في نصيحة شيخ العزبة لأم الفتاتين اليتيمتين، هنادي وآمنة: "ما أكثر العمل هنا! فالتمسي حياتك وحياة ابنتيك في بيوت هؤلاء المترفين الذين لا يعملون في الزرع والحرث، وإنما يعملون في خدمة الحكومة، منهم من يخدم في معامل السكر، ومنهم من يخدم في المركز، ومنهم من يخدم في المحكمة الأهلية أو الشرعية، ومنهم مهندس الري، ومنهم مهندس الطرق".

المهندس الشاب ينتمي بحكم وظيفته إلى الصفوة، ويسكن منزلا تنم مفرداته عن الثراء واليسر والترف، فضلاً عن هذا، يتسم المهندس بملامح شكلية جميلة، تجعله فاتنا في عيون الفتيات، وليس أدل على ذلك من الوصف الذي تقدمه آمنة: "ذلك الشاب الرشيق الأنيق ذي الوجه الوسيم، ذلك الشاب الذي كان يعيش وحيدًا في دار واسعة، تحيط بها حديقة جميلة نضرة، ولا يعيش معه فيها إلا خادم ريفي، يحرس الدار ويعني بالحديقة، وإلا أختي تنظف الدار وتعني بمتاع الشاب، وكان الطعام يأتيه غزيرا موفورا من مطعم المدينة، فيصيب منه القليل، ويترك أكثره لخادميه".

ليس مستغربًا أن تحبه هنادي محدودة الخبرة وتستسلم له، والمهندس بدوره لا يتورع عن علاقات كهذه، تنبىء المؤشرات جميعا على أنها لا تقتصر على هنادي وحدها، دون غيرها من الخادمات السابقات واللاحقات.

بعد معرفة حقيقة العلاقة الصادمة، تأبى الأم إلا الرحيل مع ابنتيها، واللافت أن الفتاة الضحية تتشبث بالحب الذي يفضي بها إلى الكارثة المروعة، وفقا لما تستدعيه آمنة: "كنت أحسبها محزونة لما تورطت فيه من خطيئة، وما أشك في أنها أحست هذا الحزن، وما أشك في أن الندم قد عذبها تعذيبا، لكنني بعد أن أنفقت معها ليلة كاملة وتبينت من أمرها ما تبينت استقبلت الصبح ونفسي تذوب أسى وحسرة على هذه الفتاة التي تنظر وراءها فترى حبا مُضيعا، وتنظر أمامها فترى خوفا مروعا، وتود لو استطاعت أن تعود أدراجها إلى حيث الحب وما يمكن أن يستتبع من نعيم أو بؤس ومن سعادة أو شقاء".

صناعة المأساة موزعة بين رجلين متناقضين، الخال مفرط القسوة، والمهندس الجميل عاشق اللهو، ولعل الصياغة التي تقدمها آمنة هي الأدق في التعبير عن الرحلة القصيرة التعيسة لشقيقتها مع الحياة: "وماتت لأن شابًّا آثما أغواها ولأنها لم تحسن أن تدفع عن نفسها غوايته".

تبرئة هنادي ليست واردة، فهي ضعيفة الإرادة عاجزة عن مقاومة السقوط، لكن المهندس يتحمل الجانب الأكبر من المسئولية، ذلك أنه يحقق انتصارًا سهلا في معركة تخلو من الندية والتكافؤ. تأبى آمنة إلا أن تثأر لشقيقتها المغدورة، والمهندس الذي يغرر بها هو الهدف من الانتقام، الخال القاتل أداة تنفيذ الحكم، ومهندس الري من يمهد بسلوكه للجريمة، فكيف يفلت من العقاب المستحق؟. إنه مانح الحياة القصيرة المغلفة بالمتعة والأحلام، وهو أيضا من يقضي عليها بالموت.

لا شك أن هنادي تستمتع بقصتها القصيرة مع الشاب، ومشاعرها بعد نهاية القصة موزعة بين الندم على ما اقترفت من خطيئة، والأسف على الحرمان من النعيم، هذه الثنائية تسيطر على إدراك آمنة وتزيدها إصرارا على الثأر، وتدفعها إلى تساؤلات مهمة عن طبيعة المهندس والسر في سيطرته على الشقيقة التي تتمسك بحبه حتى الرمق الأخير: "من هذا الشاب؟ أو من عسى أن يكون؟ وكيف يمكن أن يكون؟ أي شيء فيه أغوى هذه الفتاة البائسة ودفعها إلى ما دُفعت إليه؟ ما عسى أن يكون حظي منه إن لقيني؟ أوَ أحبه أم أبغضه؟ أيحبني أم يبغضني؟ ما هذه الغواية التي أفسدت علي أختي أمرها وأفسدت علينا جميعا أمرنا. وقضت على أختي بالموت ونغصّت علينا جميعا لذة الحياة؟"، تموت هنادي ويبقى هو فرحًا مرحًا، كأنه لم يرتكب ذنبا يقود إلى جريمة القتل التي لا يُسأل عنها كأنه بريء، لعله لا يفكر فيها أو ينشغل بها، فما أكثر ضحاياه في رحلته مع حياة اللهو.

في هذا السياق، تبدو تساؤلات آمنة منطقية مبررة، معبرة عن الأزمة الخانقة التي تكابدها وتتعذب بها: "وليتني أعرف كيف يلقى ذكرها إن ذكرت له: أيبسم لصورتها أم يلقاها بالعبوس! بل ليتني أعرف كيف يلقى النبأ البشع المروع إن اُلقي إليه: أيحزنه أن يعلم أنها ذاقت الموت وأنها ذاقته لأنه هو قد دفعها إليه، أم يقع هذا النبأ من نفسه موقعا يسيرا فلا يثير في قلبه حزنا ولا أسفا ولا يسلّط على نفسه لوعة ولا ندما".

الرغبة في المعرفة تسيطر على آمنة، والإحاطة بأخبار غريمها وتفاصيل حياته هاجس لا يغادرها بغية الثأر ورد الاعتبار. هل تعي في اندفاعها هذا أن الفوارق قد تزول بين الكراهية والحب؟، وأنها تسير في الدرب نفسه الذي ينتهي بهنادي إلى الهلاك؟. قبل الاقتراب من مهندس الري والتواصل معه، تستعيد آمنة أغنية شعبية شائعة ترددها هنادي قبل قتلها، وتكشف عن طبيعة المشاعر التي تعتمل في أعماقها: " آه يانا من غرامه يانا وإن كنت أحبه ما عليّ ملامه" تعيد آمنة إنتاج دلالات الأغنية، فتثير أمامها صورا ثلاثة: "صورة هذا الفتى الجميل الرائع يغري بالإثم ويدفع إليه، وصورة هذا الشيطان الآثم المريد يأخذ بالإثم ويعاقب عليه، وصورة هذه الفتاة البائسة اليائسة يتنازعها الإغراء المضني والعقاب المفني. ثم أنظر إلى هذه الصور فأسأل نفسي أين أنا منها؟".

الموقف ليس حاسمًا واضحًا مستقرًّا على شاطئ اليقين، والاختلاط يطل فتتشكل ملامح لوحة ذات أبعاد متعددة، يجمع فيها المهندس المتهم بين الجمال والتكوين الشيطاني، فكأنها المقدمة لميلاد عاطفة الإعجاب والحب، والتخلص من الرفض والكراهية :"وأما هذا المهندس الشاب فما أدري أين يكون مكاني منه: أهو مكان المبغضة العدو أم هو مكان المحبة الهائمة!"؛ لمهندس الري جاذبيته وسحره، والإثم الذي يرتكبه حقيقة لا شك فيها، بقدر ما أنه يبقى مسكونا بخواص النار، حيث المزيج المعقد من الدفء والإحراق. خطوة آمنة الجديدة هي الانتقال لمبارزة المهندس في عقر داره، تماما كالفراشة التي تندفع للهلاك، مسلحة بالأمل في إطفاء النار والظفر بالخلاص!.

حياة الغريم الشرير الجميل، الكريه المحبوب، تزدحم بمن يعملون في خدمته، وسكينة هي الفتاة البديلة لهنادي. لا تخلفها في القيام بما تحتاج إليه الدار من خدمة فحسب :"وإنما خلفتها على قلب هذا الشاب إن كان لهذا الشاب قلب، بل خلفتها على هواه ومجونه وعلى إثمه وغوايته، وما أكثر ما لهذا الشاب من الهوى والمجون، ومن الإثم والغواية!".

حياة مهندس الري المغامر أشبه بالكتاب المفتوح الذي لا تغيب صفحة من صفحاته عن عيني آمنة، ولا شيء يردعها عن الاندفاع لاستكمال مشروعها الذي لا يخلو من غموض وضبابية. غرام هو أم انتقام؟. شروع المهندس في خطوبة خديجة ابنة المأمور لا يمثل مفاجأة تثير الدهشة، ففي مجتمع ذي سمات طبقية صارمة، تضيق الدائرة ويتزاوج الأنداد من أصحاب المكانة، وما أقلهم في العدد والنسبة. مناسبة كهذه جديرة بالاهتمام والاحتفاء، ذلك أنها لا تتكرر كثيرًا، ويتطلع الفقراء والمحرومون إلى ما يقترن بها من عطايا وهبات واحتفالات صاخبة بهيجة.

لا شك أن الدافع إلى الزواج اجتماعي قوامه الندية والتكافؤ، وتصر آمنة أن ترى في الزيجة التي لا تتم نوعا من الخيانة لذكرى شقيقتها :"هذا المهندس الشاب قد أغوى أختي ثم دفعها إلى الموت، ثم أخذ يخونها وينتهك ما كان يجب لها عنده من حرمة، ثم هو الآن ينظم الخيانة تنظيما، ويريد أن يأتيها ويقدم عليها ويمضي فيها جهرة باسم الدين والعرف والقانون".

تنسى آمنة أو تتناسى أن لهو المهندس مع هنادي وغيرها من الخادمات يختلف بالضرورة عن الزواج، فالنمط الأول من العلاقات يستهدف المتعة المجانية والتسلية، أما الارتباط المحسوب فيراود الاستقرار وتكوين الأسرة. مفهوم "الخيانة" لا يخطر على بال المهندس، والحب الذي تكنه آمنة لخديجة لا يحول دون السعي إلى إفساد الزيجة، بل إنها ترى في الحب دافعا لإنقاذ سيدتها الصغيرة من الشر الذي يتهددها!.الدافع الحقيقي يتمثل في طموح الثأر وشهوة الاستحواذ على المهندس: "الذي كان لأختي منذ حين والذي يجب أن يكون لي بعد حين، كأنما ورثته عنها بعد الموت!". أي ميراث تتطلع إليه؟ لا تفسير إلا إنها تحبه على الرغم من قشور الكراهية التي تتمثل في شهوة الثأر المعلنة، والطموح كله أن يكون لها. تنجح في إفساد الزيجة بإفشاء ما تعرفه من خبايا وأسرار لزوجة المأمور، والسؤال هنا: هل تكفي مغامرات المهندس العاطفية، التي لا تختلف عن سلوك غيره من شباب المرحلة، لتشويه صورته وإقناع أم خديجة برفض زيجة مثالية لا تتطلع لأفضل منها؟. لفسخ الخطوبة في مهدها على هذا النحو تبعات ونتائج، وينقسم الرأي العام المحلي في تفسير الواقعة. فريق يرى: "أن المهندس هو الذي قطع الخطبة لأشياء بدت له، ومنهم من يزعم أن المأمور هو الذي رفض الخطبة لما تبين من سوء سيرة هذا الشاب". لا يقف الأمر عند الأقاويل والتكهنات، ذلك أن المأمور يطلب نقله إلى مكان بعيد، وعندئذ تخلو الساحة لآمنة بلا منغصات. ....................... ينجح تخطيط آمنة للعمل في بيت المهندس، وتصل بنجاحها هذا إلى المحطة الأخيرة في الصراع الطويل المعقد الذي يبدأ مع قتل هنادي. ما الذي ترومه على وجه التحديد؟. إنها تعي حسية المهندس ونهمه، وتراود تحطيم غروره وتلقينه درسا عن معنى المقاومة التي لا تعرف الاستسلام والرضوخ. في هذا الإطار، تمتنع عليه وتصنع حالة من التوتر والقلق لم يعرفها من قبل، وسرعان ما تفضي الوضعية الجديدة إلى صياغة مختلفة للصراع غير التقليدي القائم بينهما: "فسيدي لا يطلب عندي الآن حبا ولا لذة ولا إثما، وإنما يطلب إليّ خضوعا وإذعانا واستسلاما. هو يريد أن ينتصر لا أن ينعم، ومن يدري! لعله إنما يؤجل إقصائي عن داره حتى يتم له النصر، ويتحقق له الفوز، فيخرجني ذليلة صاغرة قد آمنت له وأذعنت لسلطانه!. ويكفي أن يخطر لي هذا الخاطر وإذ أنا مثله متعلقة بالعناد، ملحة في الخصام، قد نسيت الانتقام أو كدت أنساه". لم تعد القضية في الثأر لهنادي، التي تتراجع أهميتها، والبطولة المطلقة من نصيب آمنة وطموحها الشخصي المسلح بالعناد والتحدي. تبارزه على أرضية الحب الكامن الذي تكتمه ولا يصعب استنباط وجوده، ويعاركها بدوره من منطلق البحث عن انتصار لهيبته وكرامته، دون اهتمام بالمطالب الحسية وحدها. من دوامة الصراع هذه يتأكد الحب،وعندما ينتقل المهندس للعمل في القاهرة، يبدأ الفصل الأخير في الصراع متعدد الفصول والأبعاد. يصر على اصطحابها معه ولا تمانع، وتقيم في منزل أسرته كأنها الصديق لا الخادم، وتحظى من أبويه بالبر والعطف والرفق والحنان. على الصعيد الاجتماعي الطبقي التقليدي، يمثل عرض الزواج الذي يتقدم به مهندس الري مفاجأة لا يسهل قبولها واستيعابها، لكن الأمر كله منذ البدء لا يخضع للمألوف السائد، فكيف يتم التقييم وفق قوانين لا موضع لها؟. ينتصر طه حسين بطريقته الخاصة لفكرة الصعود الطبقي الذي يعيد تشكيل الخريطة بلا عناء، لكن النهاية المفتوحة للرواية لا تجعل من الزواج فعلا حتميا. الأهمية تكمن في معرفة المهندس للتاريخ المخبوء والقدرة على تجاوزه والاستهانة به، لكن شبح هنادي يقف بينهما ولا يمكن إهماله وإنكاره. .................... آمنة هي الشخصية المحورية الرئيسة في "دعاء الكروان"، وهنادي في حضورها وغيابها ذات تأثير من طراز مختلف، أما الأم والخال والمأمور وزوجه وابنته خديجة، وغيرهم من الشخوص الأقل أهمية، فيلعبون أدوارا متباينة متفاوتة، ويبقى المهندس الشاب مجهول الاسم ذا نسيج لا يشبه غيره، فهو صانع المأساة الذي يتعرض للهزيمة والانكسار قرب النهاية، كأنه يكفّر بالمصير الذي يؤول إليه عن خطاياه وآثامه مع هنادي وغيرها من ضحاياه.       

تابع مواقعنا